سؤال:
«هل تقرأ البسملة في أول الفاتحة؟ وما حكم من لم يقرأ بالبسملة في قراءة الفاتحة؟».
الجواب:
البسملة آية من سورة النمل، وآية من القرآن في كل موضع جاءت فيه. جعلت؛ للفصل بين السور.
والدليل على ذلك:
1- الإجماع على أن ما بين دفتي المصحف قرآن.
2- ولأن سورة (إقرأ) هي أول ما نزل، ولم يذكر في أولها بسم الله الرحمن الرحيم، وكذا ما جاء من حديث في سورة تبارك، وغير ذلك.
وهي من الفاتحة على قراءة؛ بدليل عدّها آية من آياتها في عد الكوفيين. وهي ليست آية من آياتها، وإنما آية للفصل في أولها؛ بدليل عدم عدها في عد البصريين، ولا يقال ليست من القرآن هنا.
قال أبو عمرو الداني -رحمه الله- في كتابه البيان في عد آي القرآن (ص: 139): «اختلافها آيتان {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}، عدهَا الْمَكِّيّ والكوفي وَلم يعدها الْبَاقُونَ»اهـ.
فمن لم يقرأ البسملة في الفاتحة لا يحكم أن صلاته باطلة؛ لأنها ليست منها على قراءة.
قال ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (22/ 351): «وَالْفَاتِحَةُ سَبْعُ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي».
وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْهَا، وَيَقْرَؤُهَا.
وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ لَا يَجْعَلُهَا مِنْهَا، وَيَجْعَلُ الْآيَةَ السَّابِعَةَ ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحُ (يعني حديث: قسمت الصلاة).
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ؛ فَهِيَ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ، وَلَيْسَتْ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ.
وَالْفَاتِحَةُ سَبْعُ آيَاتٍ. مِنْ وَجْهٍ تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ مِنْهَا؛ فَتَكُونُ آيَةً. وَمِنْ وَجْهٍ لَا تَكُونُ مِنْهَا، فَالْآيَةُ السَّابِعَةُ ﴿َنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾؛ لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ أُنْزِلَتْ تَبَعًا لِلسُّورِ»اهـ.
وقال في مجموع الفتاوى (22/ 353-355): «وَأَمَّا تِلَاوَتُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فَهُوَ ابْتِدَاءٌ بِهَا لِلْقُرْآنِ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَد هَلْ قِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فَرْضٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ؛ فَالْبَسْمَلَةُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ.
ثُمَّ وُجُوبُهَا قَدْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ.
وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، كَمَا يُوجِبُ الِاسْتِعَاذَةَ وَالِاسْتِفْتَاحَ؛
وَلِهَذَا لَا يَجْعَلُ الْجَهْرَ بِهَا تَبَعًا لِوُجُوبِهَا، بَلْ يُوجِبُهَا.
وَيَسْتَحِبُّ الْمُخَافَتَةَ بِهَا.
وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَكَانَ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْفَاتِحَةِ دُونَ بَعْضٍ بَعِيدًا عَنْ الْأُصُولِ، فَإِذَا جُعِلَتْ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ اتَّفَقَتْ الْأَدِلَّةُ وَالْأُصُولُ وَأُعْطِيَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ صِفَةً، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَلَوْ كَقَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي حَالٍ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ: إنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قِرَاءَةٍ دُونَ قِرَاءَةٍ؛ لِتَوَاتُرِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ؛
فَيُقَالُ: الْمُتَوَاتِرُ هُوَ الْأَمْرُ الْوُجُودِيُّ، وَهُوَ مَا سَمِعُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبَلَّغُوهُ عَنْ الرَّسُولِ. وَالْقُرْآنُ فِي زَمَانِهِ لَمْ يُكْتَبْ، وَلَا كَانَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمْرًا وَاجِبًا مَأْمُورًا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَلْ الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ فِي ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ لِكُلِّ مِنْهُمْ اصْطِلَاحٌ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِهِ غَيْرُ اصْطِلَاحِ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الَّذِينَ لَا يَقْرَءُونَهَا قَدْ أَقْرَأهُمْ الرَّسُولُ وَلَمْ يُبَسْمِلْ، وَأُولَئِكَ أَقْرَأهُمْ وَبَسْمَلَ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ.
لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ قِرَاءَتِهَا؛ فَإِنَّ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ كَيْفَ يَسُوغُ قِرَاءَتَهَا وَالنَّهْيُ عَنْ قِرَاءَتِهَا؟!
بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ كَالْحُرُوفِ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي قِرَاءَةٍ دُونَ قِرَاءَةٍ، مِثْلِ: {مِنْ تَحْتِهَا}. وَمِثْلُ: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ}؛ فَالرَّسُولُ يُجَوِّزُ إثْبَاتَ ذَلِكَ، وَيُجَوِّزُ حَذْفَهُ، كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي شَرْعِهِ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ أَثْبَتَهَا، أَوْ مَكْرُوهَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يُثْبِتْهَا؛ فَقَدْ غَلِطَ، بَلْ الْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ.
وَمَنْ قَرَأَ بِإِحْدَى الْقِرَاءَاتِ لَا يُقَالُ: إنَّهُ كُلَّمَا قَرَأَ يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا، وَمَنْ تَرَكَ مَا قَرَأَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَقُولُ: إنَّ قِرَاءَةَ أُولَئِكَ مَكْرُوهَةٌ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَإِنْ رَجَّحَ كُلُّ قَوْمٍ شَيْئًا.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَقَطَعَ بِخَطَأِ مَنْ أَثْبَتَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُرْآنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَطْعِ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَلَا تُنْفَى إلَّا بِالْقَطْعِ أَيْضًا.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَنْ أَثْبَتَهَا يَقْطَعُ بِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ، وَيَقْطَعُ بِخَطَأِ مَنْ نَفَاهَا؛ بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَطْعِيًّا أَوْ غَيْرَ قَطْعِيٍّ أَمْرٌ إضَافِيٌّ، وَالْقِرَاءَاتُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ بِهَا أَفْضَلُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ يُجَوِّزُونَ هَذَا. وَيُرَجِّحُونَ قِرَاءَتَهَا وَيُخْفُونَهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِغَيْرِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ»اهـ.