في مجلس الشريف نواف آل غالب وفقه الله (15)
أتابع مسائل الآية في السؤال الأول :
الثانية : ما المراد بالأرض في قوله تعالى:﴿ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾؟
والجواب : هذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء : 105).
الأكثر على أن المراد بالأرض في هذه الآية أرض الجنة.
وقيل: أرض الدنيا ، بما وعدهم من النصر والتمكين، حيث ترث أُمَّة محمد أرض الدنيا بالفتوح، وهو منقول عن ابن عباس . ويدل على هذا الوعد ما جاء عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ" وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، يَقُولُ: " قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ"( أخرجه أحمد (الميمنية 4/103)، (الرسالة 28/154، تحت رقم 16957). وصححه محققو المسند على شرط صحيح مسلم.).
والذي يظهر أنه لا مانع هنا كذلك من مجموع القولين: أن الأرض هي أرض الدنيا، والأرض هي أرض الجنة.
قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَكَلَاهُمَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ حَقُّ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ هُنَا : ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء:105) فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ يُورِثُهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ . وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ (الزمر:74). الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْعَدُوِّ ، يُورِثُهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ (الأحزاب: 27)، وَقَوْلُهُ : ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ الْآيَةَ (الأعراف: 137)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الْآيَةَ (النور:55)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ (إبراهيم: 13 – 14)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ"اهـ(أضواء البيان (4/250).
فإن قيل: كيف يستقيم هذا مع قوله : ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾، فالآية فيها قوله: ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾، فالأرض بحسب اللحاق هي أرض الجنة، فكيف يستقيم أن الآية شاملة للقولين و لا تمانع بينهما؟
فالجواب : المعنى على تفسير الأرض بأرض الدنيا، أن الله أورثنا أرض الدنيا، وبسبب ما قمنا به من جهاد لإعلاء كلمة الله في فتحها بوأنا الله من الجنة حيث نشاء(ذكر هذا المعنى بنحوه الماوردي في النكت والعيون).
والمعنى على تفسير الأرض بأرض الجنة ظاهر.
يتبع إن شاء الله