قصة صَبيغ بن عسل
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: صَبِيغُ بْنُ عَسَلٍ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ جَلَسَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، ثُمَّ أَهْوَى إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِتِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَمَا زَالَ يَضْرِبُهُ حَتَّى شَجَّهُ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ وَاللَّهِ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي"( أخرجه الدارمي (1/ 252، تحت رقم 146)، والآجري في الشريعة (1/ 483، تحت رقم 153)، ( 5/ 2556، تحت رقم 2065)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 702، تحت رقم 1137 – 1138). قال حسين أسد في تحقيقه لسنن الدارمي: "رجاله ثقات غير أنه منقطع سليمان بن يسار لم يدرك عمر بن الخطاب"اهـ، قلت: القصة مشهورة، ويشهد لروايته ماجاء عن نافع مولى ابن عمر في قصة صبيغ، وهي التالية، فلا تنزل عن الحسن لغيره إسناداً. ).
عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ صَبِيغًا الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: فِي الرَّحْلِ، قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَنْ يكونَ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنِّي بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَسْأَلُ مُحْدَثَةً، فأرْسلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ، قَالَ: فقالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي، فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ، فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ: أنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ".
وفي رواية ابن وضاح: "فَقَالَ عُمَرُ: تَسُلُّ حَدَثَة ً؟"، "فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ يُجَالِسُونَهُ" (أخرجه الدارمي في السنن (1/ 254، تحت رقم150)، وابن وضاح البدع لابن وضاح (2/ 111، تحت رقم 148)، قال محقق سنن الدارمي : "إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن صالح"اهـ. قلت : القصة مشهورة، وقد توبع عبدالله بن صالح في روايته عن الليث، تابعه ابن وهب، عند ابن وضاح.).
وهذه القصة فيها فوائد؛ منها:
الأولى : جاء في رواية بيان الأسئلة التي كان يسأل عنها صبيغ ففي كتابه الشريعة (1/ 481 -482)، قال الآجري رحمه الله: "حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ قَالَ: فَبَيْنَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ يُغَدِّي النَّاسَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ يَتَغَدَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ (الذاريات: 2) فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ، أَلْبِسُوهُ ثِيَابَهُ، وَاحْمِلُوهُ عَلَى قَتَبٍ، ثُمَّ أَخْرِجُوهُ حَتَّى تَقْدِمُوا بِهِ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغًا طَلَبَ الْعِلْمَ فَأَخْطَأَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ".
قال الآجري رحمه الله (الشريعة 1/ 484): "فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ (الذاريات: 2)، اسْتَحَقَّ الضَّرْبَ، وَالتَّنْكِيلَ بِهِ وَالْهِجْرَةَ.
قِيلَ لَهُ: لَمْ يَكُنْ ضَرْبُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ بِسَبَبٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَأَدَّى إِلَى عُمَرَ مَا كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرَاهُ عَلِمَ أَنَّهُ مَفْتُونٌ، قَدْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ، وَعَلِمَ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِطَلَبِ عِلْمِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ عِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْلَى بِهِ , وَتَطَلُّبُ عِلْمِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى مَا لَا يَنْفَعُهُ، سَأَلَ عُمَرُ اللَّهَ تَعَالَى أّنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهُ، حَتَّى يُنَكِّلَ بِهِ، وحَتَّى: يُحَذِّرُ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ رَاعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ رَعِيَّتِهِ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ، فَأَمْكَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِمُتَشابَهِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى"اهـ.
الثانية : مشروعية عقوبة الإمام لمن هذا حاله، وقد بوّب على القصة الآجري رحمه الله : "بَابُ تَحْذِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَعُقُوبَةِ الْإِمَامِ لِمَنْ يُجَادِلُ فِيهِ"اهـ وقال (الشريعة 5/ 2554- 2555): "بَابُ عُقُوبَةِ الْإِمَامِ وَالْأَمِيرِ لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأُمَرَائِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ مَذْهَبُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - مِمَّنْ قَدْ أَظْهَرَهُ - أَنْ يُعَاقِبَهُ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ ؛
فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَتَلَهُ.
وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وُيُنَكِّلَ بِهِ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ.
وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَنْفِيَهُ نَفَاهُ, وَحَذَّرَ مِنْهُ النَّاسَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الْحُجَّةُ فِيمَا قُلْتَ؟ .
قِيلَ: مَا لَا تَدْفَعُهُ الْعُلَمَاءُ مِمَّنْ نَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعِلْمِ , وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلْدَ صَبِيغًا التَّمِيمِيَّ , وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: أَنْ يُقِيمُوهُ حَتَّى يُنَادِي عَلَى نَفْسِهِ , وَحَرَمَهُ عَطَاءَهُ , وَأَمَرَ بِهِجْرَتِهِ , فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي النَّاسِ.
وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَتَلَ بِالْكُوفَةِ فِي صَحْرَاءَ أَحَدَ عَشَرَ جَمَاعَةً ادَّعَوْا أَنَّهُ إِلَهُهُمْ , خَدَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُخْدُودًا وَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ , وَقَالَ:
لَمَّا سَمِعْتُ الْقَوْلَ قَوْلًا مُنْكَرَا ... أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرَا
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَأَةَ فِي شَأْنِ الْقَدَرِيَّةِ: تَسْتَتِيبُهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ.
وَقَدْ ضَرَبَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عُنُقَ غَيْلَانَ وَصَلَبَهُ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْأُمَرَاءُ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ يَسِيرُونَ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ عَاقَبُوهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَوْنَ , لَا يُنْكِرُهُ الْعُلَمَاءُ"اهـ.
الثالثة : مشروعية الهجر لأهل البدع ؛ ومحله إذا حقق مصلحة للهاجر أو المهجور أو للعامة، فإذا حقق مصلحة في بعض ذلك أو كله شرع، وقد قسم الهجر إلى أنواع :
النوع الأول : الهجر الإيجابي، وهو الذي يحقق أثره في المهجور، وغالبا يكون من الأب لابنه أو الزوج لزوجه، أو الرئيس لمن تحته.
النوع الثاني : الهجر الوقائي، الذي يعلم فيه الهاجر أنه لا تأثير لهجره على المهجور، بل يخشى إذا استمر معه على ما هو عليه أن يتأثر به، أو أن يغرر بالعامة فيظنون صاحب البدعة على حق، فهنا يهجره وقاية لنفسه أو لغيره .
النوع الثالث: الهجر السلبي، الذي لا يؤثّر في المهجور، ولا خوف مِن أن يتأثّر به، أو يغرر بالناس بسببه، ففي هذه الحال الهجر ما له معنى لأنه لا يُحقّق المقصود، فخُلطته مع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ومفارقته عند تلبّسه بالمنكر هذا هو المشروع، وعليه يُنزّل حديث الرسول ﷺ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"( أخرجه أحمد في المسند (2/ 43، الميمنية)، (9/64، حديث رقم 5022، الرسالة)، والترمذي في كتاب صفة الجنة والرقائق والورع، باب منه، حديث رقم (2507)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، حديث رقم (4032). والحديث صححه محققو المسند، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، وفي السلسلة الصحيحة (939). وجزم عند ابن ماجة بأن راويه ابن عمر، وقال أحمد ابن حنبل "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَحَجَّاجٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشَ وَقَالَ حَجَّاجٌ: عَنِ الْأَعْمَشِ يُحَدِّثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَأُرَاهُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: حَجَّاجٌ قَالَ شُعْبَةُ: قَالَ سُلَيْمَانُ: وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ " قَالَ: حَجَّاجٌ: " خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ".).
تنبيه: لا ينبغي بالمسلم أن يهوّن من خطر البدعة وأهلها، فلا يغتر بنفسه ويصاحبه يظن في نفسه القدرة على عدم التأثر، بل عليه أن يبتعد عنهم، ويهجره أصحاب البدع ويخشى على دينه؛
"دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَقَالَا: يَا أَبَا بَكْرٍ نُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ، قَالَ: لَا، قَالَا: فَنَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: لَا، لَتَقُومَانِ عَنِّي، أَوْ لَأَقُومَنَّ، فَقَامَ الرَّجُلَانِ, فَخَرَجَا"( القدر للفريابي محققا (ص: 215).).
قَالَ سَلَّامٌ : "وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ لِأَيُّوبَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ قَالَ: فَوَلَّى أَيُّوبُ وَهُوَ يَقُولُ: وَلَا نِصْفَ كَلِمَةٍ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ"( ذم الكلام وأهله 5/ 183).
عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: "كَانَ أَبُو قِلَابَةَ يَقُولُ: لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ، ولا تجادلهوهم، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي الضَّلَالَةِ, أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ بَعْضَ مَا لَبَسَ عَلَيْهِمْ"( القدر للفريابي محققا (ص: 212).).
والإمام مالك لمّا جاء الرجل ذاك يسأله عن الاستواء ماذا صنع معه؟ طرده، وقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول وما أراك إلا صاحب بدعة أخرج من المجلس، لأنه فتح الباب لمثل هذا النوع من الأسئلة التي قد يكون فيها شر، فزجر الإمام مالك الناس عن هذا الأمر بطرده لهذا الرجل، ومالك لا يتأثّر به لكن يخشى على الناس ويخشى أنه إذا ما سكت عليه في سؤاله هذا الذي سأل أن ينتج من ذلك أن يتجرأ الناس على مثل هذه الأسئلة فينشغلوا بها عن تحقيق العلم الواجب عليهم الذي ينفعهم في دنياهم وأخراهم.
الرابعة : إذا وقعت الشبهة في النفس على المسلم أن يبحث بنفسه عن الجواب، وإن لم يصل إلى جواب، يأتي إلى الشيخ بلطف في حالة إنفراد ويكاشفه بما في نفسه حتى لا يكون سببا في التأثير على الآخرين، لأن الشبه خطّافة والقلوب ضعيفة، ولذلك استحق صبيغ العقوبة!
فلا يفسح في قلبه المجال للإيرادات والشبه بما لا ينفعه، فإن هذا يضره.
قال ابن القيم رحمه الله (مفتاح دار السعادة 1 / 140).: "قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد :
لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها . ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها ؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته .
وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات أو كما قال.
فما اعلم إني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك"اهـ( ).
الخامسة : امتثال الناس لولاة أمرهم، لما يأمروهم بهجر أهل البدع، خشية فسادهم وإفسادهم. فقد جاء في القصة: "وَكَتَبَ (يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه) إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ: أنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ". وفي رواية ابن وضاح: "فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ يُجَالِسُونَهُ".
تنبيه : لا دلالة في هذا أنه لابد في كل من تاب من بدعته أن يكتب في شأنه مشهد بحسن توبته وصلاح حاله، إنما غايته أن الناس اتبعوا أمر ولي أمرهم، وما كانوا يتركونه إلا بأمره، فلهذا كتب أبو موسى إلى عمر بحسن هيئة صبيغ، لا أن ذلك شرط في صحة توبته، أو جواز ترك هجره مطلقا، والله الموفق.