عرضًا لا غرضًا: المدنية والحضارة
يلحظ الناظر في السنة النبوية بل وفي الشريعة الإسلامية أنها تعلّم المؤمن الزهد في الدنيا والتقلل منها، وأن لا يجعلها أكبر همّه.
قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:77).
ومعنى الآية : اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله تعالى.
﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، فيعمل ما أمره الله به من العبادات والقربات، كالصدقة وصلة الرحم.
وقال علي: لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة( ).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : "أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ"( ).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟
فَقَالُوا : مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ!
قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟
قَالُوا : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ!
فَقَالَ : فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ"( ).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً! فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"( ).
بل إن الرسول لم يلتفت إلى ما عند فارس والروم، وكانتا في ذلك الوقت قمة المدنية الحضارية، بل وزهد فيما عندهما.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [في قصة خبر طلاقه لأزواجه]: "... فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: لَا ثُمَّ قُلْتُ: وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَتَبَسَّمَ أُخْرَى.
فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ.
ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلَاثَةٍ فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي"( ).
فالمؤمن في الدنيا يعيش للآخرة، و لا يلتفت إلى ما خص به الغير من أمور الدنيا الفانية. ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت:64).
ولم تأت أي إشارة في القرآن العظيم إلى الترغيب في الحضارة المدنية التي كان عليها الروم والفرس، بل على العكس جاءت النصوص تذم الكفر والكافرين، بدون استثناء.
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ : "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:
أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا :
كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ .
وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا.
وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ .
وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ.
قَالَ : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ :
ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ .
وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى .
وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ.
قَالَ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ:
الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا.
وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ .
وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ.
وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوْ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ.
وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"( ).
ففي هذا أن الحضارة والمدنية وكل علو في شأن الدنيا، ليس محلا لأن يلتفت إليه، أو يشار إليه، بل محل للمقت والذم، وعدم الرضا إذا لم يقترن بعبادة الله وتوحيده والقيام بشرعه.
وفيه أن الدين والقيام بطاعة الله واتباع أمره هو المعول عليه، وهو المقصود.
فالغرض الذي يسعى إليه المسلم هو الآخرة، والقيام بشرع الله في الدنيا، و يعلم أن ما تركه من الدنيا سيعوضه الله إياه في الآخرة!
وقد جاء في شرع الله بيان الطريق للعزة والقوة والتمكين في الدنيا وهو نفس الطريق المطلوب من المسلم سلوكه.
قال تبارك وتعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:55).
فالوعد بالتمكين والاستخلاف لمن قبلهم في الأرض، وتبديل الخوف أمناً، هو لمن عبد الله ولم يشرك به شيئا، ومعنى ذلك أنه قام بطاعة الله تبارك وتعالى، وسار على شرعه الذي بلغه نبيه.
جاء عن ابن عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: "إِذَا تبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ, وأخَذْتُمْ أذْنابَ الْبَقَرِ, وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْع, وترَكْتُمْ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى ترْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"( ).
فهذا هو سبب ما أصاب أمة الإسلام من الذل والهوان.
و لا سبيل لها إلى العز والتمكين إلا برجوعها إلى الدين.
فنحن [قوم أعزنا الله بالإسلام مهما ابتغينا العزة بدونه أذلنا الله].
فإذا رجعنا إلى الدين حققنا المقصود من خلقنا، الذي أراده الله منا، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذريات:56) .
وعندها إذا جاءت الحضارة والمدنية المادية فإنها تأتي عرضاً لا غرضاً.
ولا طريق للناس إلَى الرجوع إلَى الدِّين إلا بالعلماء, فإذا أضاعوا حَقَّ العلماء, وما عَادُوا يَعرفُونَهُم, وزهدوا فيهم, واتَّخَذُوا رءوسًا ُجهَّالاً؛ كيف يرجعون إلَى الدين؟!
والدِّين هو ما جاء فِي حديث جبريل لَمَّا ذكر الإسلام, والإيْمَان, والإحسان, وأشراط الساعة، ثُمَّ قال فِي آخره: "ثُمَّ انْطَلَقَ -يعنِي: السائل الذي جاء يسأل على تلك الْهَيئة العجيبة- فَلَبِثْتُ مَلِيًّا, ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُمَرُ, أتدْرِي مَن السَّائِلُ؟ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: فإنه جِبْرِيلُ, أَتاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"( ).
فإذا أسقط العلماء, واتَّخَذَ الناس رءوسًا جُهَّالاً؛ مَنْ يعود بالناس إلَى دينهم؟!
كيف يَخرجون من حال الذُّلِّ والْهَوَان بدون العلماء؟
وهذه قصة من قصص الرعيل الأول في مواجهتهم مع أصحاب المدنية والحضارة في عصرهم، وذلك في قصة معركة القادسية، التي أذل الله تعالى فيها الفرس سنة ست عشرة، لمّا واجه المسلمون بقيادة سعد بن أبي وقاص، جيش الفرس بقيادة رستم.
قال سيف عن شيوخه: ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه.
فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا.
فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولا قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز.
فقال له رستم: فما هو ؟
فقال : أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال : ما أحسن هذا ؟ ! وأي شئ أيضا ؟
قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: وحسن أيضا، وأي شئ أيضا ؟
قال: والناس بنو آدم [وحواء]، فهم أخوة لأب وأم.
قال : وحسن أيضا.
ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟
قال: إي والله ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة.
قال: وحسن أيضا.
قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذاكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فأنفوا ذلك وأبوا أن يدخلوا فيه قبحهم الله وأخزاهم وقد فعل.
قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولا آخر بطلبه وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب.
ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.
فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم ؟
فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله ؟
قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟
قال : نعم ! كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
فقال: أسيدهم أنت ؟
قال : لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤوساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل ؟
فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟
فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة. إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.
ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلا فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعي."( ).
فإذا جاءت الحضارة والمدنية بدون أن تتعارض مع ديننا وطاعة ربنا فالحمد لله.
وإذا جاءت بنبذ الدين والخروج عن طاعة ربنا فهذا سبيل الضلالة، وطلاب الدنيا لا طلاب الآخرة.
فإلى الذين يطلبون الحقيقة.
إلى الذين بهرتهم المدنية الغربية فظنوا أن فيها سبيل التقدم والسعادة والفلاح.
إلى من أغرتهم المدنية والحضارة أسوق هذه المقالة، وأقول: "إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة.
وقد بعث الله إلينا رسولا قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به.
وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز"( ).