سؤال:
بعضهم يشكل عليه يقول: لماذا العلماء اليوم يأخذون عن بعض الذين كانوا من أهل البدع من أشعرية وغيرهم، ويعذرونهم، ويقولون: نأخذ الصحيح ونجتنب الخطأ الذي وقعوا فيه، في العقيدة وغيرها.
وأما الآن إذا وقع خطأ مشابه في العقيدة أو في مسالة ولاة الأمر، يقولون: هؤلاء عندهم بدع واتركوهم تمامًا.
ولا يصلح أن نقول: نأخذ عنهم الصحيح ونترك الخطأ.
ما الفرق رغم أن الخطأ أو البدعة قد تكون نفسها.
وقد يكون العالم السابق والمتأخر تأثر بمحيطه أو تم تنبيهه ولم يتراجع ظنا منهما أن هذا صواب، ومع ذلك يأخذون عن السابق ويتركون المعاصر؟
الجواب:
اعلم بارك الله فيك ، أن باب هجر أهل البدع وترك الأخذ عنهم هو أصل من أصول أهل السنة، وذلك لأن من مقاصد الشريعة الكلية جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ومن ذلك حفظ الضروريات الخمس، التي اتفقت الشرائع السماوية على حفظها، ومنها حفظ الدين.
ومن حفظ الدين درء ما يجلب إليه الفساد والخلل، وأس ذلك بعد الشرك بالله: البدعة، ولذلك تأكد التحذير منها ومن أهلها.
واعلم أن الناس وقعوا في هذا الباب بين متشدد غال، ومترخص جافي، والسنة والصراط المستقيم بينهما؛
فالمتشدد يقول : كل من وقع في بدعة يرد كلامه و لا يقبل، ولا يستفاد من كتبه وعلمه مطلقاً، بل بعضهم يفتي سراً بتحريق كتب من نسب إلى بدعة من العلماء، كمن يفتي بتحريق فتح الباري، وشرح النووي.
والمترخص الجافي يقول: يؤخذ عن كل من نسب إلى بدعة، فإنهم مسلمون، علماء، ويجتنب الخطأ منهم. ويطلق القول بدون أي قيد أو شرط، ويفتح الباب على مصراعية.
والذي عليه منهج السلف بين هذا وهذا، فهم يقررون التالي :
- من نسب إلى بدعة ، فإنه ينصح ويبين له الخطأ، فإن رجع وقبل فالحمد لله، وإلا حذر منه ومن بدعته إنكاراً عليه، فيهجر و لا يؤخذ منه العلم، لعله ينزجر ويدع ما هو عليه من الباطل، ولا يحكم عليه ببدعته إلا بعد قيام الحجة.
- فإن كان الذي نسب إلى بدعة قد مات، فإنهم ينظرون في شأنه وحاله؛ فإن علموا من حاله لزوم السنة، واتباعها، وأن ما وقع فيه من بدعة، من باب الاجتهاد والخطأ فيه، فإنهم يعذرونه بهذا، فيأخذون عنه ما اصاب فيه، ويحذرون من الخطأ الذي وقع فيه.
قال ابن تيمية رحمه الله في فصل طويل (مجموع الفتاوى (28/231-234)، قال في آخره: "ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم، والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك.
وان علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله مثل عبد الله بن أبى وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبد الله بن سبأ وأمثاله، مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب، فهذا يذكر بالنفاق.
وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا! ذكر بما يعلم منه؛
فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم.
ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب، إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى. وان تكون كلمة الله هي العليا. وأن يكون الدين كله لله؛ فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما. وكذلك القاضي والشاهد والمفتي"اهـ.
وقد طبق أهل الحديث أهل السنة عملياً في الرواية عن أهل البدع، من رواة الحديث؛ هذا التفصيل، ومن أجل هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحْمة الله عليه (منهاج السنة النبوية 1/14): "لَمْ يدعوا -يعنِي: أهل الحديث- الرواية عن هؤلاء -يعنِي: عمن فيه نوع بدعة- للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته، وجب الإنكار عليه، بِخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يُهجَر حَتَّى ينتهي من إظهار بدعته، ومن هجره: ألاَّ يؤخذ عنه العلم، ولا يُستشهد".
ثُمَّ قال: "ومَنْ عرف هذا تبين له أن من ردَّ الشهادة والرواية مطلقًا من أهل البدع المتأولين فقوله ضعيف؛ فإن السلف قد دخلوا بالتأويل فِي أنواع عظيمة.
ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة فِي العلم والشهادة لا ينكر عليهم بِهجر ولا ردع؛ فقوله ضعيف أيضًا"اهـ.
ولَمَّا ذكر ابن رجب -رحْمة الله عليه- حجة المانعين مطلقًا للرواية عن أصحاب البدع لَمْ يقتصر على كونِهم مفسّقين ببدعتهم، بل ذكر ما ذكره ابن تيمية فِي كلامه السابق.
قال ابن رجب رحمه الله (شرح علل الترمذي 1/357).: "والمانعون الرواية -يعنِي: عن أصحاب البدع- لَهم مأخذان:
أحدهما: لكفر أهل الأهواء وفسقهم، وفيه خلاف مشهور.
والثانِي: الإهانة لَهم والهجران والعقوبة، وترك الرواية عنهم، وإن لَمْ نَحكم بكفرهم أو فسقهم.
ولَهم مأخذ ثالث: وهو أن الهوى والبدعة لا يُؤْمَنْ معه الكذب، لاسيما إذا كانت الرواية مِمَّا تعضد هوى الراوي"اهـ.
وبناء عليه ؛
فلا إشكال في الأخذ عمن عرف من العلماء السابقين ببدعة، ما دام لم يعرف عليه العناد في قبول الحق، وعرف من حاله حب السنة وأهلها، وأنه من أهل العلم المشهود لهم، وإنما وقع فيما وقع فيه من باب الخطأ في الاجتهاد.
أمّا إذا لم يكن من منهج الرجل السنة وأهلها، أو عرف أنه من أهل الجهل والباطل والعناد والهوى، فإنه لا يؤخذ منه ولا من كتبه، ويحذر منه ومن كتبه مطلقاً، سواء كان حياً أو ميتاً.
و لا إشكال في ترك الأخذ عن المعاصرين أصحاب البدع، وهجرهم والتحذير منهم، زجراً لهم، وتحذيراً من إتباعهم، وكسراً لشأنهم في عين العامة، عسى أن يتوبوا ويرجعوا.
والله الموفق.