سؤال :
هل توجد أدلة على معاني الانصراف من الصلاة التي ذكرتها؟
الجواب :
انصراف الامام يطلق على معاني :
الأول : انصرافه من الصلاة بالتسليم.
ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري الحديث رقم (564)، عن عَبْد اللَّهِ بن عمر رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً صَلاَةَ العِشَاءِ، وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ العَتَمَةَ، ثُمَّ انْصَـرَفَ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ».
فقوله: "ثم انصرف" يعني سلم من الصلاة.
ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري (841) عن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ، بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ».
الثاني : انصرافه عن جهة القبلة واستقباله للمصلين.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري تحت رقم (785) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ «يُصَلِّي بِهِمْ، فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ، وَرَفَعَ»، فَإِذَا انْصَـرَفَ، قَالَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
فقوله: "فإذا انصرف" يعني سلم واستقبل المصلين".
الثالث : انصرافه بمعنى قيامه من محله الذي صلى فيه.
ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري تحت رقم (850) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كَانَ يُسَلِّمُ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ، فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
فقولها: "من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم"، تريد قبل قيامه من محله. لا تريد بالانصراف سلامه من الصلاة صلى الله عليه ولسم لأنها ذكرت هذا بقولها: "كان يسلم"، و لا تريد استقباله للناس بعد السلام، لأنه كان يستقبلهم مباشرة بعد السلام والاستغفار ثلاثا، وهي مدة لا تمكن النساء من الخروج قبل الرجال، فظهر أنها تريد قبل أن يتحول من محل صلاته .
ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري (852) عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لاَ يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ «لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ».
الرابع : الانصراف بمعنى الخروج من المسجد.
ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري تحت رقم (937)، ومسلم (882)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ العِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لاَ يُصَلِّي بَعْدَ الجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ»، وفي رواية عند مسلم «فَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ».
ومن ذلك ما أخرجه مسلم تحت رقم (649) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلَّاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ، حَتَّى يَنْصَـرِفَ، أَوْ يُحْدِثَ " قُلْتُ: مَا يُحْدِثَ؟ قَالَ: «يَفْسُو أَوْ يَضْرِطُ».
فقوله: "حتى ينصرف" يعني يخرج من المسجد.
الخامس : انصرافه بمعنى عدم عوده للصلاة بعدها في محله.
ومنه ما جاء في سنن الترمذي تحت رقم (806) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ، وَقَامَ بِنَا فِي الخَامِسَةِ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنَ الشَّهْرِ، وَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ، وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الفَلَاحَ، قُلْتُ لَهُ: وَمَا الفَلَاحُ، قَالَ: «السُّحُورُ». قال الترمذي رحمه الله. : "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"اهـ، وصححه الألباني رحمه الله.
فقوله : "حتى ينصرف" لا يريد به حتى يسلم من الصلاة ، لأنه كان يسلم من كل ركعتين. ولا يريد به أن يستقبل وجه والمصلين، لأنهم كانوا يتروحون بعد كل تسليمتين فقد يستقبل الإمام المصلين ويتروح معهم. و لا يريد به أن يقوم من محله، فقد يقوم لحاجة ويرجع ويكمل الصلاة، إنما مراده أن يسلم ويستقبل المصلين ويقوم من محله وينتقل إلى محل آخر، بقصد أنه لا يريد أن يصلي بعد ذلك، كما دل علي هذا ما جاء في رواية للحديث عند الطبراني في الأوسط تحت رقم (972) عَنْ شُرَيْحٍ الْحَضْرَمِيِّ، يَرُدُّهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " لَمَّا كَانَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ قَالَ: «إِنَّا قَائِمُونَ اللَّيْلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَقُومَ فَلْيَقُمْ» وَهِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ , وَصَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً بَعْدَ الْعَتْمَةِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ [ثُمَّ انْصَرَفَ] , فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ لَمْ يَقُلْ [لَمْ يُصَلِ] شَيْئًا وَلَمْ يَقُمْ , فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ قَامَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ يَوْمَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ [فَ] قَالَ: «إِنَّا قَائِمُونَ اللَّيْلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يَعْنِي لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقُمْ فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا [حَتَّى] ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفَ , فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ لَمْ يَقُلْ [شَيْئًا] وَلَمْ يَقُمْ , فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ [صَلَاةِ] الْعَصْرِ يَوْمَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ قَامَ فَقَالَ: «إِنَّا قَائِمُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يَعْنِي لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ «فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقُمْ» قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَتَجَلَّدْنَا لِلْقِيَامِ , فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قُبَّتِهِ [فِي] الْمَسْجِدِ , فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَقَدْ طَمِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَقُومَ بِنَا إِلَى الصُّبْحِ , فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ إِذَا صَلَّيْتَ مَعَ إِمَامِكَ وَانْصَرَفْتَ كُتِبَ لَكَ قُنُوتُ لَيْلَتِكَ».
والشاهد قوله: "فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قُبَّتِهِ [فِي] الْمَسْجِدِ".
لطيفة :
في علوم القرآن الكريم يوجد علم الوجوه والنظائر، أن يأتي اللفظ بمعاني عدة، ولم يعمل مثله في الحديث، وذلك ممكن ، وهذا منه. والله الموفق.