اعتذار وتنويه
سبق لي أن كتبت منشوراً قلت في أوله : "لفت نظري أن بعض الناس يغلو في وصف الرجل بالبدعة، ويريد معاملته كأقسى ما تكون، لمجرد أن وجهه وألفته مع أهل البدع. وكان الأوزاعي يقول: من ستر عنا بدعته لم تخف علينا ألفته.
فأقول : رحم الله الأوزاعي، لكن يعطى لكل أمر مرتبته ومنزلته، فهل تريد أن تعامل هذا كما تعامل من عرف ببدعته؟!
الآن الطريقة التي يصنعها بعض الناس هي هذه!
ليس لديه شيء عن فلان أنه صاحب بدعة، لكن يقول: ألفته ووجهه لأهل البدع، خلاص هو منهم.
أقول: ألفته لأهل البدع لا تسوغ لك إخراجه عن السلفية بمجرد هذا، ولكن عليك أن تناصح وأن تبين، وتتكلم برفق، أمّا أن تطلق حكما بذلك وتعممه، بل وتطالب الجميع بأن يهجره ويعامله معاملة أهل البدع، لمجرد ذلك، هذا فيه مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم..... الخ"اهـ
أقول: فقد بلغني أن بعض الناس قد فهم من كلامي أني أجوز مجالسة أهل البدع والأهواء، وهذا أمر خطير جداً، استوجب التنبيه والاعتذار مما سبق، فإن على المسلم أن يحذر أهل البدع والأهواء، وأن لا يجالسهم ولا يصاحبهم ولا يكن معهم، فإنهم كالجرب، وكالأسد الضاري يحذر من شره.
والذي عليه السلف التحذير من مجالسة أهل البدع والأهواء، وترك مخالطتهم!
في الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 426- 430)[حققه: رضا بن نعسان معطي - الطبعة: الثانية، 1415 هـ - 1994 م]:
بَابُ التَّحْذِيرِ مِنْ صُحْبَةِ قَوْمٍ يُمْرِضُونَ الْقُلُوبَ وَيُفْسِدُونَ الْإِيمَانَ
قال في أوله: "قَدْ أَعْلَمْتُكَ يَا أَخِي - عَصَمَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْفِتَنِ , وَوَقَانَا وَإِيَّاكَ جَمِيعَ الْمِحَنِ - أَنَّ الَّذِي أَوْرَدَ الْقُلُوبَ حِمَامَهَا , وَأَوْرَثَهَا الشَّكَّ بَعْدَ اتِّقَائِهَا هُوَ الْبَحْثُ وَالتَّنْقِيرُ , وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ , عَمَّا لَا تُؤْمَنُ فِتْنَتُهُ , وَقَدْ كُفِيَ الْعُقَلَاءُ مُؤْنَتَهُ , وَأَنَّ الَّذِي أَمْرَضَهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا , وَسَلَبَهَا أَثْوَابَ عَافِيَتِهَا , إِنَّمَا هُوَ مِنْ صُحْبَةِ مَنْ تَغُرُّ أُلْفَتُهُ , وَتُورِدُ النَّارَ فِي الْقِيَامَةِ صُحْبَتُهُ. أَمَّا الْبَحْثُ وَالسُّؤَالُ فَقَدْ شَرَحْتُ لَكَ مَا إِنْ أَصْغَيْتَ إِلَيْهِ - مَعَ تَوْفِيقِ اللَّهِ - عَصَمَكَ , وَلَكَ فِيهِ مُقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ , وَأَمَّا الصُّحْبَةُ فَسَأَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ حَالِهَا , مَا إِنْ تَمَسَّكْتَ بِهِ نَفَعَكَ , وَإِنْ أَرَدْتَ اللَّهَ الْكَرِيمَ بِهِ وَفَّقَكَ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَوْصَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَذَّرَهُ مِنْهُ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. ثُمَّ أَذْكَرَهُ مَا حَذَّرَهُ , وَأَعَادَ لَهُ ذِكْرَ مَا أَنْذَرَهُ , فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]
أورد فيه بسنده عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام: 68] يَسْتَهْزِئُونَ , نُهِىَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْسَى , فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وبسنده عَنْ قَتَادَةَ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] قَالَ: نَهَاهُ اللَّهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ , يُكَذِّبُونَ بِهَا , وَإِنْ نَسِيَ , فَلَا يَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وبسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ , فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»
وبسنده عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُجَالِسْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ , فَإِنَّهُمْ يُحْدِثُونَ فِي قَلْبِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
وبسنده (2/ 455): عَنْ ثَابِتٍ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ مُؤْمِنٌ , وَفِيهِمْ كَافِرَانِ تَأَلَّفَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ , وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا إِلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ كَافِرٌ , وَفِيهِمْ مُؤْمِنَانِ , تَأَلَّفَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ
وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 128) باب في سِيَاقُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَجِدَالِهِمْ وَالْمُكَالَمَةِ مَعَهُمْ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى أَقْوَالِهِمُ الْمُحْدَثَةِ وَآرَائِهِمُ الْخَبِيثَةِ
ذكر (1/ 155)عن الْفُضَيْلَ يَقُولُ: «لَا تَجْلِسْ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ , وَأَخْرَجَ نُورَ الْإِسْلَامِ مِنْ قَلْبِهِ , وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا طَيَّبَ لَهُ مَطْعَمَهُ»
وذكر (1/ 156) قَالَ الْفُضَيْلَ: «صَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا تَأْمَنْهُ عَلَى دِينِكَ , وَلَا تُشَاوِرْهُ فِي أَمْرِكَ , وَلَا تَجْلِسْ إِلَيْهِ , فَمَنْ جَلَسَ إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ وَرَّثَهُ اللَّهُ الْعَمَى»
وعن الْفُضَيْلَ يَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ , فَانْظُرْ مَعَ مَنْ يَكُونُ مَجْلِسُكَ , لَا يَكُونُ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ , فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ , وَعَلَامَةُ النِّفَاقِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ وَيَقْعُدَ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ»
وعن الْفُضَيْلَ يَقُولُ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ , فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ , وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ , وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ سُنَّةٍ يُمَالِئُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إِلَّا مِنَ النِّفَاقِ»
وفي الإبانة الكبرى لابن بطة بسنده قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ , وَلَا تُجَادِلُوهُمْ , فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ , أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ
وفي الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 436)
عن عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ , قَالَ: كَانَ يُقَالُ: لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ زَيْغٍ , فَيُزِيغَ قَلْبَكَ
وفي الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 439) بسنده عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ , فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يُخَادِنُ إِلَّا مَنْ يُعْجِبُهُِسُوا عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ
وفي الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 439)
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ , قَالَ: «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَمْشَاهُ , وَمَدْخَلُهُ , وَمَخْرَجُهُ» ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: قَاتَلَ اللَّهُ الشَّاعِرَ حِينَ يَقُولُ:
[البحر الطويل]
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِينَهُ ... فَإِنَّ الْقَرِينَ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وفي الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 440) بسنده عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] قَالَ: لَا تَبْتَدِعُوا , وَلَا تُجَالِسُوا مُبْتَدِعًا.
فالحذر ... الحذر ... لا تجالسوا أهل البدع واهل الأهواء ... والله المستعان وعليه التكلان.