ترسيخ المجملات دون تفصيل من مسالك أهل البدع
مسألة نبذ الوطنية مثال على ذلك ...
من مسالك أهل البدع : أن يهتموا بترسيخ المعاني المجملة في أذهان الناس، دون بيان ما يبينها من تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تفسير غريب أو مبهم.
وهذا من اتباع المتشابه، الذي ذمّه الله تعالى في القرآن العظيم.
قال تبارك وتعالى: ]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[ (آل عمران:7).
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ e هَذِهِ الْآيَةَ: ]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ"([1]).
قال ابن تيمية رحمه الله: "لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم سواء، لا يريدون بالمجمل مالا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك؛ بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقا.
كما في قوله تعالى: ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا? [التوبة: من الآية 103] فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم ليست مما لا يفهم المراد به، بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل؛ فإن المأمور به صدقة تكون مطهرة مزكية لهم وهذا إنما يعرف ببيان الرسول؛
ولهذا قال احمد: يحذر المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس.
وقال: أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل والقياس.
قال: يريد بذلك أن لا يحكم بما يدل عليه العام والمطلق قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه؛ فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس؛ فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثا يطمئن القلب إليه وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك، وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي وأصحابه طريق أهل البدع وله في ذلك مصنف كبير.
وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛
ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولا فاسدا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وقوله تعالى: ?يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم? [النساء: من الآية11] سماه عاما، وهو مطلق في الأحوال يعمها على طريق البدل، كما يعم قوله: ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَة? [المجادلة: من الآية3] جميع الرقاب لا يعمها كما يعم لفظ الولد للأولاد، ومن أخذ بهذا لم يأخذ بما دل عليه ظاهر لفظ القرآن بل أخذ بما ظهر له مما سكت عنه القرآن، فكان الظهور لسكوت القرآن عنه لا لدلالة القرآن على أنه ظاهر، فكانوا متمسكين بظاهر من القول لا بظاهر القول، وعمدتهم عدم العلم بالنصوص التي فيها علم بما قيد، وإلا فكل ما بينه القرآن وأظهره فهو حق، بخلاف ما يظهر للإنسان لمعنى آخر غير نفس القرآن يسمى ظاهر القرآن كاستدلالات أهل البدع من المرجئة والجهمية والخوارج والشيعة"اهـ([2]).
ومراد أهل البدع من سلوك هذه الجادة أن يهيئوا عقول الناس للمعاني التي يريدونها، بحيث يتقبل قولهم، ولا ينازعون فيه.
ولأضرب لك مثالاً على هذا :
من المعاني المقررة في الشرع : أن المؤمنين في كل مكان أخوة، وهذا بنص القرآن العظيم: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[ (الحجرات: من الآية10).
وأن المسلم يشعر بأخيه المسلم في كل مكان.
وأن لا حدود تفصل بين المسلمين.
ويقول شاعرهم:
أخـي في الهند أو فـي المغربي أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عـن مولدي عن نسبي إنه الإسـلام أمي و أبي
وتضخم قضية أن الحدود من صنع الاستعمار!
فيتم التركيز على هذه المعاني المجملة العامة، دون تفصيل، حتى تستقر في الأذهان، دون بيان أو تفصيل أو تخصيص أو تقييد.
ماذا ينتج في النفوس من هذا الطرح المجمل؟!
تترسخ في الأذهان عدة قضايا سلبية جداً، تجعل عقل المسلم يتقبل مفارقة جماعة المسلمين، والخروج عن السمع والطاعة لولاة الأمور؛
فمن هذه القضايا:
القضية الأولى :
بما أن الحدود الدولية من رسم الاستعمار.
وبما أن ولي الأمر يستعمل هذه الحدود للتفريق في الأنظمة بين المسلمين، خارج وداخل هذه الحدود.
إذا ولي الأمر صنيعة للاستعمار!!
القضية الثانية :
بما أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وبما أن ولاة الأمر يضعون نظاماً يفعِّل هذه الحدود.
إذا لا طاعة لولاة الأمر في ذلك.
القضية الثالثة:
إذا هجم الكفار على أي بلد إسلامي؛
بما أن الحدود بين بلدان المسلمين باطلة.
وبما أنه لا طاعة لولاة الأمر في تفعيل هذه الحدود.
إذا يجب علينا جهاد الدفع، لأن بلدان المسلمين واحدة، وكلنا أمة واحدة!
القضية الرابعة :
إذا كانت بلاد المسلمين واحدة.
وإذا كان المسلمون أمة واحدة.
فإن ولي الأمر هو الذي يكون سلطانه على جميع البلاد.
فينتج أن هؤلاء الولاة على البلدان (الدول) لا ولاية منعقدة لهم!
القضية الخامسة :
إذا كان هؤلاء الولاة لا تنعقد لهم ولاية.
والولاية إنما تكون للإمام الأعظم.
إذا يجوز الخروج عليهم عند أول فرصة تسنح لذلك، لإقامة الدولة الإسلامية!!
وبناء على هذه القضايا ؛ فإن الوطنية والانتماء على الوطن معنى ينافي الإسلام!!
تأمل - يا رعاك الله - في هذه النتائج الخطيرة، المترتبة على هذا الطرح المجمل لقضية هي في أصلها صحيحة، ولكنها تحتاج إلى تبيين وتوضيح، والإغراق في طرحها يؤدي إلى ترسيخ معان غير مرادة شرعاً.
ولتبيين الأمر من الناحية الشرعية أقول:
الدولة الإسلامية انقسمت إلى دول و دويلات منذ انتهاء دولة بني أمية؛ فقد كانت الدولة العباسية في المشرق، وقامت الدولة الأموية في المغرب بالأندلس، ولم ينكر العلماء ذلك، ولم يزعم أحد أن لا ولاية لهذه الدولة أو تلك على رعاياها.
بل انقسمت الدولة العباسية إلى ولايات متعددة، ولكل دولة حدودها، ونظامها، ولم يقل أحد من العلماء في ذلك الوقت: إن هذه الحدود بين الدول، باطلة، و لا اعتبار بها!
فإقرار الحدود بين الدول، وإقرار انعقاد الولاية في كل جهة، لمن تغلب عليها محل إجماع بين أهل العلم.
قال أحمد بن حنبل (ت241هـ) رحمه الله: "والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين".اهـ([3]).
وقال ابن تيمية الحراني (ت728هـ) رحمه الله: "والسُّنّة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوّابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة لكان يجب على كل حال إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق"اهـ([4]).
وقـال محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) رحمه الله: "الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء.
ولولا هذا ما استقامت الدنيا لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم"اهـ([5]).
وقال أيضاً رحمه الله: "من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا ، فبين النبي r هذا بيانا شائعا ذائعا ، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم ، فكيف العمل به؟! "([6]) .
وقال الشوكاني (ت1250هـ) رحمه الله: "لما اتسعت أقطار الإسلام، ووقع الاختلاف بين أهله، واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان؛ اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه. وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد، بل هو إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله r إلى هذه الغاية"اهـ([7]).
وحتى في مسألة الجهاد، لما صورها الفقهاء، وذكروا محل جهاد الدفع، وقع تصويره على أساس أن للمسلمين بلداناً متعددة، فقالوا: إذا هجم الكفار على أهل بلد أو حاصروهم، وجب على أهل البلد دفعهم، فإن عجزوا وجب على الذين يلونهم نصرتهم، فإن عجزوا وجب على الذين يلونهم نصرتهم، حتى يعم الوجوب الجميع!
وأنت إذا نظرت إلى عبارة الفقهاء وجدتها قائمة على أساس التسليم بالحدود لكل بلد، وأن الحكم يختلف من بلد إلى بلد؛ من ذلك:
أن البلد المعتدى عليه يجب على أهله جهاد الدفع، والبلدان التي تليه يجب عليها النصرة لا جهاد الدفع.
أن البلدان تختلف بحسب قدرتها وقوتها على النصرة، لذلك ذكر العجز.
وهذا فيه التسليم بقضية أن المسلمين في كل بلد يختلف حالهم وحكمهم عن البلد الآخر.
والخلاصة :
أن قضية : أن المسلمين أخوة. وأن لا حدود بين المسلمين. وأن الحدود من صنع الاستعمار.
هذا حق؛ ولكن لابد من التفصيل فيه، ليعرف ويتبين، حتى لا تبنى عليه أحكام باطلة.
فإن المسلمين أمة واحدة؛ لكن لا ينافي ذلك الحدود بين دولة مسلمة وأخرى.
و لا ينافي ذلك أن ينظر الإمام فيما هو الأفضل والأكثر حظاً لأهل بلده، كالأب مع عياله، وأسرته، فهل ينافي أن يكون المسلمون أمة واحدة، أن يهتم رب كل أسرة كبما يصلح شأن أسرته ورعيته؟! كذا الوالي في كل دولة من دول المسلمين.
و لا ينافي ذلك أن يجب الجهاد على بعضهم دون بعضهم، لأن أهل البلد المداهمة أو المحصورة إذا عجزت وجبت نصرتها مع القدرة على التي تليها، ومن لا قدرة له لا تجب عليه النصرة، إذ القدرة مناط التكليف.
و لا ينافي ذلك صحة وانعقاد الولاية لكل من تغلب على أهل جهة، مقيماًً فيهم شرع الله، إذ ولي الأمر في الشرع هو الإمام الأعظم، ومن تغلب على أهل جهة، وصلح له الأمر، وهذا محل إجماع!
و لا ينافي ذلك الانتماء إلى الوطن، والسمع والطاعة لولاة الأمر، والسعي بالنظر فيما فيه عز الوطن ورفعته، بين الدول، بل هذا من مقتضى أن المسلم ينتمي إلى هذه البلد دون الأخرى، المهم أن لا يكون في هذا الانتماء ما يخالف الشرع؛ فالوطنية انتماء إلى الأرض برباط الدين بما لا يخالف الشرع.
والرسول صلى الله عليه وسلم حن إلى بلده، في وقت كان الشرك والكفر هو المتغلب عليها؛
عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيَّ أخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"([8])
وعليه فإن لهؤلاء الولاة السمع والطاعة في المعروف، و لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق!
و لا يجوز الخروج عليهم.
و لا تهييج الناس عليهم.
فانظر ماذا ترتب على إطلاق العبارات البراقة، التي وإن كانت حق، لكن ترك البيان والتفصيل فيها، واستعمالها على إجمالها، ينتج هذه المفاسد والشرور؟!
ولذلك هو من مسالك أهل البدع!
فإن قلت : يا أخي أنت تضخم الأمر، وتأتي بأشياء لا وجود لها إلا في خيالك!
فالجواب:
هذا الذي ذكرته لك، هو واقع ملموس، أليس لدى الكثير من الدعاة، خصوصاً المعاصرين من أصحاب المناهج الدعوية المخالفة، اعتقاد أنه ليس للمسلمين اليوم جماعة يرجعون إليها، ذات ولاية ببيعة شرعية!
وأنه ليس في الأرض اليوم جماعة للمسلمين, بالمراد الشرعي للجماعة، التي ورد في النصوص الشرعية ذكرُها والحثُّ على لزومها، وتحريمُ الخروج عليها.
وبناءً على هذا الاعتقاد الفاسد يوجبون على الأمة الإسلامية أن تسعى لإيجاد الجماعة حسب هذا المفهوم الباطل.
بل يرون السعي في إيجادها ونصب الإمام العام فرض عين، على كل فرد مسلم، حتى توجد الخلافة العامة، التي تدين لها الأمة كلها، من أدناها إلى أقصاها، للخليفة فيها بالولاء والنصرة والمرجعية([9]).
ويترتب على هذا التأصيل؛ اعتقاد فاسد وهو: أن الجماعة غير موجودة الآن؛ لأن الآراء منذ قرون عديدة لم تتفق على إمام واحد لجميع المسلمين بعقد بيعة شرعية([10]).
ويترتب على هذا المعتقد الضال الفاسد أمور منها:
إباحةُ الخروج على جميع الحكومات الإسلامية حتى حكومة المملكة العربية السعودية؛ لأن المسلمين لم يتفقوا كلهم على أن يبايعوا إمامها إماماً عاماًّ لجميع المسلمين، فذلك حسب هذا المعتقد الفاسد يبيح لهم اعتبار الحكومات غير شرعية لأنها متعددة، واعتقاد عدم وجود حكومة شرعية للمسلمين اليوم.
ويترتب عليه المخالفة التامة لسنة الرسول r، في تحديد المراد الشرعي بالجماعة.
ويترتب عليه منازعة ولاة الأمور في ولاياتهم ، أي منازعة الأمر أهله، وهذا لا يجوز.
وقد ترتب أيضاً على ذلك المفهوم الباطل، ما تسميه بعض الجمعيات الدعوية ضابطاً لشرعية عمل أي جماعة دعوية أخرى، وهو: أن يكون عملها "مما يؤيد الإمام العام، ويكون عوناً له، في الواجبات التي ألقاها الله على عاتقه، من إقامة شرع الله في الأرض، والجهاد في سبيله"([11]) .
واختم بأن هذا الطرح يخالف الإجماع المنعقد بوجوب البيعة لمن تغلب على المسلمين في جهة وأقام فيهم شرع الله تعالى، وقد حكى هذا الإجماع الشوكاني و محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله([12]).
وأليس هناك من دعى إلى ضرورة الانتماء إلى الجماعات الإسلامية، زاعماً أن جماعة المسلمين، هي هذه الجماعات الإسلامية القائمة الآن ، المعروفة بأسمائها وقادتها ونظمها وأعضائها. كالإخوان المسلمين، وجماعة التبليغ ، وحزب التحرير، وغيرها ، من الجماعات الإسلامية القائمة الآن ، المعروفة بأسمائها وقادتها ونظمها وأعضائها.
قالوا: لأنها كلها ليست إلا وسائل للدعوة جائزة.
وقالوا: إنه لا يضير المسلم أن يختار من هذه الجماعات - التي ليست إلا وسيلة للدعوة - جماعةً ، يراها أقرب إلى الحق والصواب!!
و يريدون بهذه الجماعات تحقيق الطريق إلى الجماعة الأم بزعمهم!([13])
([1]) أخرجه البخاري في كتاب التفسير باب ]منه آيات محكمات[، حديث رقمن (4547)، ومسلم في كتاب العلم باب النهي عن اتباع المتشابه، حديث رقم (2665).
([2]) مجموع الفتاوى (7/391-392).
([3]) أصول السنة رواية عبدوس ص64 .
([4]) مجموع الفتاوى (34 / 175 ، 176).
([5]) الدرر السنية (ط 5/1416هـ) (9/5) .
([6]) الدرر السنية (ط 5/1416هـ)(9/5 – 7).
([7]) السيل الجرار (4/502)، وانظر السيل الجرار (4/512).
([8]) أخرجه أحمد في المسند (4/305)، وأخرجه الدارمي في كتاب السير باب إخراج النبي e من مكة، تحت رقم (2552) (3/1632 أسد)، والترمذي في كتاب المناقب، باب في فضل مكة، تحت رقم (3925)، وابن ماجة في كتاب المناسك باب فضل مكة، تحت رقم (3108)، والنسائي في (السنن الكبرى)كتاب الحج، باب فضل مكة (4/247-248، تحت رقم 4238-4239)، وابن حبان (الإحسان9/22، تحت رقم 3708)، والحاكم في المستدرك (3/7، 280، 431).
والحديث قال الترمذي عنه: "حسن غريب صحيح"اهـ، وصححه ابن حبان والحاكم، ومحقق الإحسان، محقق سنن الدارمي.
([9]) ينظر: رسالة ماجستير ، بعنوان : الطريق إلى جماعة المسلمين ، تقدم بها حسين بن محمد بن علي جابر، إلى شعبة السنة المشرفة ، بالجامعة الإسلامية، وقد نال صاحبها الامتياز مع الشرف، بإشراف ، الأستاذ الدكتور محمود أحمد ميرة ، نشر دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ـ المنصورة . ش . م . م ، وكتاب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة ، دراسات حول الجماعة والجماعات ، تأليف عبد الحميد هنداوي ط2/ عام 1416هـ، 15-19. نشر: مكتبة التابعين بالقاهرة .
([10]) واعتقاد أن الجماعة غير موجودة الآن اعتقاد فاسد، ومفهوم خاطئ.
والتعليل لاعتقاد عدم وجود الجماعة الآن بعدم اتفاق جميع المسلمين اليوم على إمام واحد بعقد بيعة هو تعليل معلول، حيث لا يلزم من عدم الاتفاق على إمام واحد عدم وجود جماعة المسلمين، ذات الولاية ببيعة شرعية، يرجع إليها ، ويحرم الخروج عليها.
([11]) انظر منهج الجمعية ، للدعوة والتوجيه ، (جمعية إحياء التراث الإسلامي) في الكويت ، ط2/ عام 1417هـ، ص45، س 9وما بعده .
قلت: ولكن هذا الإمام العام غير موجود ، إلا في الذهن، ولا ينبغي أن يشتبه علينا وجود الذهن بوجود العين، فنظنهما واحداً، فتخلط علينا البدعة بالسنة، ولا نميز بينهما، إذ وجود الذهن ، لا حقيقة له فيما خرج عن الذهن. وما أقرب هذا الطرح من هؤلاء بالإمام المنتظر عند الذين ينتظرونه!
([12]) وسبق قبل قليل سياق عبارتهم في ذلك.
([13]) قلت : ألا يعتبر هذه التأصيل الفاسد دعوة إلى التفرق، لأنه دعوة إلى جماعات متعددة الأهواء متباينة الآراء ، متضادة متناحرة فيما بينها، كل واحدة لا تتفق مع الأخرى، بل تبدعها أو تفسقها أو تكفرها، لأن فيها الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية، والصوفية والخوارج، والجبرية والمرجئة، وكلها متناقضة متضادة في مناهجها وعلومها وتصوراتها، متباينة في مقاصدها ومراداتها، متفرقة في دعواتها، والقول بأنها متفقة باطل في الواقع، ولفظ خبر الرسول r يرد ذلك كما جاء عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَامَ فِينَا فَقَالَ أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَامَ فِينَا فَقَالَ : "أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَة". أخرجه أحمد في المسند (4/102)، و أبو داود في كتاب السنة، باب شرح السنة، حديث رقم (4597)، والآجري في الشريعة (الطبعة المحققة) (1/132، تحت رقم 31). وصحح إسناده محقق جامع الأصول (10/32)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (204)، وذكر جملة من الأحاديث تشهد له. وأشار في نظم المتناثر ص32-34 إلى تواتره.
فإن قوله : "واحدة،...، وهي الجماعة"، وفي رواية : "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" ينافي التعدد المتضاد، فتعين أن تكون الجماعة واحدة، وإن تنوعت في صورها، وتعددت جماعاتها بتعدد الأماكن والأزمان والأجناس، والأحوال، كتعدد جماعاتهم ومساجدهم في الصلاة ، فهم واحد في المنهج والعلم والتصور، وفي النية والعمل والإرادة والغاية، وهم أهل السنة والجماعة.ينظر: التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية ، تأليف العلامة عبد العزيز بن ناصر الرشيد ، ط2/ص13 .
لكن مع الأسف ينطلق هؤلاء الدعاة في دعواتهم إلى الله بزعمهم، من تلك المنطلقات المتفرقة، التي لا ترجع إلى مرجعية تجمعها، وينطلقون من تلك المفاهيم الخاطئة للمراد الشرعي بمفهوم الجماعة، فيأتون إلى الناس من دعواتهم المفارقة بجهالة وبغي ، وبدعة وضلالة، ويسلكون مسلك الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، كالخوارج المارقة، الذين يفتاتون على أهل الإسلام والسنة، ويحرجونهم بممارساتهم الضالة باسم الإسلام ، والإسلام منها براء ، وباسم السنة والسلفية وليست من منهج أهل السنة والجماعة في شيء.
ومن ذلك المفهوم الفاسد : اعتقد بعض الناس ، أننا في زمان الاعتزال، الواجب فيه الاعتزال، أخذاً بزعمهم من قوله في حديث حذيفة قال: "قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال r: فاعتزل تلك الفرقَ كلَّها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". انظر : البخاري مع الفتح (13/35).