لماذا كره الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثرة الأسئلة؟
الذي يظهر والله أعلم ؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كره كثرة الأسئلة لما يلي:
1 ) لأنه صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يبادر إلى التصديق والعمل، والامتثال والتسليم، وأن يكون هذا همّه، وهذا من أهم معاني الفقه في الدين.
2 ) أن يتعود المسلم التأمل والتفكر فيما بلغه من العلم والبحث في ذلك والنظر، بدلاً من أن يعوِّد نفسه على السؤال مباشرة بدون تفكر أو بحث. خاصة وأن له بهذا التفكر والتـأمل الأجر والثواب.
3 ) ولأن المسلم إذا تعوّد كثرة الأسئلة أوشك أن يسأل بلا تروي أو تفكر، وقد يسأل عما يسيء إليه، دون أن يشعر.
4 ) ولأن كثرة الأسئلة تكون مفتاحاً للشر، فيتسلل من في قلبه نفاق أو حقد فيسأل عن ما يسبب الفتنة والفساد في القلوب، أو يدخل الشك والريب في ضعيف الإيمان وقليل العلم.
5 ) ولأنه يخشى أن يمنع السؤال باب العفو في الموضوع الذي يسأل عنه.
6 ) ولأن كثرة الأسئلة تعود صاحبها على كثرة الاعتراض والانتقاض لما يسمع من أدلة الشرع، دون تروي أو تفكر.
7 ) ولأن المبادرة إلى العمل والتسليم تورث صاحبها العلم بما لم يعلم، كما ورد في بعض الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.
8 ) ولأن كثرة الأسئلة قد تتنافى مع الأدب الواجب والترفق بأهل العلم ورثة الأنبياء.
9 ) ولأن كثرة الأسئلة قد توقع في فتح أسئلة لا يحسن طرحها، وموضوعات لا يحسن الكلام فيها في هذا الوقت أو ذاك.
وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: " فُلَانٌ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] » .
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ دُعِيَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: " أَبُوكَ حُذَافَةُ " ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ» . وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]
وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» .
«وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللِّعَانِ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى ابْتُلِيَ السَّائِلُ عَنْهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِذَلِكَ فِي أَهْلِهِ» .
«وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» .
قال ابن رجب رحمه الله في شرح الحديث التاسع في كتابه جامع العلوم والحكم، بعد ذكره لهذه الأحاديث وغيرها:
"الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالِاهْتِمَامُ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي فَهْمِ ذَلِكَ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهِ،
ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالتَّصْدِيقِ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ، بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ مَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَتَكُونُ هِمَّتُهُ مَصْرُوفَةً بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى ذَلِكَ؛ لَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَهَكَذَا كَانَ حَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ هِمَّةُ السَّامِعِ مَصْرُوفَةً عِنْدَ سَمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى فَرْضِ أُمُورٍ قَدْ تَقَعُ، وَقَدْ لَا تَقَعُ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَيُثَبِّطُ عَنِ الْجِدِّ فِي مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ.
وَقَدْ «سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتَ عَلَيْهِ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ زُوحِمْتَ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اجْعَلْ " أَرَأَيْتَ " بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ لَا يَكُونَ لَكَ هَمٌّ إِلَّا فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَّا فَرْضَ الْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ تَعَسُّرَهَ قَبْلَ وُقُوعِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَفْتُرُ الْعَزْمُ عَلَى التَّصْمِيمِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ، فَإِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ، وَالسُّؤَالَ عَنِ الْعِلْمِ إِنَّمَا يُحْمَدُ إِذَا كَانَ لِلْعَمَلِ، لَا لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ.
قال : "وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمُجَادَلَةَ عَنِ السُّنَنِ أَيْضًا
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَنِ يُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ وَإِلَّا سَكَتَ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى: كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الْعِلْمِ يَذْهَبُ بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِ الرَّجُلِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُؤَثِّرُ الضَّغْنَ.
قال : وَقَدِ انْقَسَمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْسَامًا:
فَمِنْ أَتْبَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ سَدَّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى قَلَّ فِقْهُهُ وَعِلْمُهُ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَصَارَ حَامِلَ فِقْهٍ غَيْرَ فَقِيهٍ.
ومِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي تَوْلِيدِ الْمَسَائِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، مَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ مِنْهَا وَمَا لَا يَقَعُ، وَاشْتَغَلُوا بِتَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ فِيهِ، وَالْجِدَالِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ افْتِرَاقُ الْقُلُوبِ، وَيَسْتَقِرَّ فِيهَا بِسَبَبِهِ الْأَهْوَاءُ وَالشَّحْنَاءُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَيَقْتَرِنُ ذَلِكَ كَثِيرًا بِنِيَّةِ الْمُغَالَبَةِ، وَطَلَبِ الْعُلُوِّ وَالْمُبَاهَاةِ، وَصَرْفِ وُجُوهِ النَّاسِ؛
وَهَذَا مِمَّا ذَمَّهُ الْعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى قُبْحِهِ وَتَحْرِيمِهِ.
وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَامِلُونَ بِهِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ هَمِّهِمُ الْبَحْثُ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنَ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَعَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا،
ثُمَّ التَّفَقُّهِ فِيهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا،
ثُمَّ مَعْرِفَةِ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَمَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأُصُولِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الرَّبَّانِيِّينَ،
وَفِي مَعْرِفَةِ هَذَا شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ التَّشَاغُلِ بِمَا أَحْدَثَ مِنَ الرَّأْيِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا يُورِثُ التَّجَادُلُ فِيهِ كَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ وَالْجِدَالِ وَكَثْرَةَ الْقِيلِ وَالْقَالِ.
وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ كَثِيرًا إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَوَلِّدَاتِ الَّتِي لَا تَقَعُ يَقُولُ: دَعُونَا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّقَطِيُّ: نَظَرْتُ فِي الْأَمْرِ،
فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ،
فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَرُبُوبِيَّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، وَذِكْرَ الْعَرْشِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْحَلَّالَ وَالْحَرَامَ، وَالْحَثَّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الْخَيْرِ فِيهِ،
وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ، فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ، وَالْغَدْرُ، وَالْحِيَلُ، وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ، وَجِمَاعُ الشَّرِّ فِيهِ"اهـ.