بلاغة النظم في القرآن العظيم، هي وجه التحدي به 1-3
قال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي (المتوفى: 388هـ) رحمه الله، في كتابه بيان إعجاز القرآن (ص: 27-29):
"القرآن إنما صار معجزًا لأَنه جاءَ بأَفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني؛
من توحيد له عزت قدرته , وتنزيه له فى صفاته , ودعاء إلى طاعته .
وبيان بمنهاج عبادته؛ من تحليل وتحريم , وحضر وإباحة .
ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر .
وإرشاد إلى محاسن الأخلاق , وزجر عن مساوئها .
واضعًا كل شيءٍ منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه .
ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه .
مودعًا أخبار القرون الماضية .
وما نزل من مَثُلات الله بمن عصى وعاند منهم .
منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأَعصار الباقية من الزمان .
جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له .
والدليل والمدلول عليه ؛
ليكون ذلك أوكد للزوم مادعا إليه , وإنباء عن وجوب ما أمر به , ونهى عنه.
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قُوى البشر , ولا تبلغه قدَرهم , فانقطع الخلق دونه , وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته فى شكله.
ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة: إنه شعر لما رأوه كلامًا منظومًا ,
ومرة : سحر إذ رأوه معجوزًا عنه , غير مقدور عليه .
وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا فى النفوس يُريبهم ويحيرهم؛ فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف. ولذلك قال قائلهم: إن له حلاوة وإن عليه طلاوة.
وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {أساطير الأولين اكْتَتَبها فَهى تُمْلَى عليه بُكرةً وأصِيلاَ} مع علمهم أن صاحبه أميُّ وليس بحضرته من يملي أو يكتب .
في نحو ذلك من الأمور التي جماعها الجهل والعجز .
وقد حكى الله جل وعز عن بعض مردتهم وشياطينهم - ويقال هو الوليد بن المغيرة المخزومي - أنه لما طال فكره في أمر القرآن , وكثر ضجره منه , وضرب له الأخماس من رأيه فى الأسداس , لم يقدر على أكثر من قوله: {إن هذا إلَّا قولُ البَشَرْ} عنادًا للحق وجهلًا به , وذهابًا عن الحجة وانقطاعًا دونها , وقد وصف ذلك من حاله وشدة حيرته فقال سبحانه: {إنه فكَّرَ وقدَّر , فقُتل كيف قدَّرَ , ثم قُتِل كيف قَدَّر. ثم نَظَر. ثم عَبَس وبسَر. ثم أدبر واسْتكبَر. فقال إن هذا إلا سحر يُؤْثَر. إنْ هذا إلَّا قولُ البشَر}.
وكيفما كانت الحال ودارت القصة , فقد حصل باعترافهم قولاً , وانقطاعهم عن معارضته فعلًا أنه معجز , وفي ذلك قيام الحجة وثبوت المعجزة , والحمدلله.
ثم اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو :
وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به , الذي إذا أُبدل مكانه غيره جاء منه؛
إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام .
وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة"اهـ
هذا كلام الخطابي المتوفي (388هـ) رحمه الله، وفيه تقرير نظرية بلاغة نظم القرآن العظيم، التي بسطها وشرحها الجرجاني (ت471هـ) رحمه الله، في كتابه (دلائل الإعجاز).