لا يسوغ للمفتي إذا في المسألة أقوال متضادة أن يذكر الخلاف للعامي بدون ترجيح.
فإن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).
ووجه الدلالة : أن الله أمر من لا يعلم أن يرجع لأهل العلم، ولم يجعل الأمر موكولا إلى اختياره وهواه، فالعامي يرجع إلى العالم فيما لا يعلم. والعالم يرجع إلى اجتهاده فيما ينزل به من مسائل. بل و لا يسوغ للمفتي أن يذكر الخلاف المتضاد في المسألة ويتركه بدون ترجيح!
قال الشاطبي رحمه الله (الموافقات 5/ 97): "إِذَا عَرَضَ الْعَامِّيُّ نَازِلَتَهُ عَلَى الْمُفْتِي؛ فَهُوَ قَائِلٌ لَهُ: أَخْرِجْنِي عَنْ هَوَايَ وَدُلَّنِي عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَلَا يُمْكِنُ - وَالْحَالُ هَذِهِ - أَنْ يَقُولَ لَهُ: فِي مَسْأَلَتِكَ قَوْلَانِ؛ فَاخْتَرْ لِشَهْوَتِكَ أَيَّهُمَا شِئْتَ؟؛
فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا تَحْكِيمُ الْهَوَى دُونَ الشَّرْعِ، وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ: مَا فَعَلْتُ إِلَّا بِقَوْلِ عَالِمٍ؛ لِأَنَّهُ حِيلَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحِيَلِ الَّتِي تَنْصِبُهَا النَّفْسُ، وِقَايَةً عَنِ الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَشَبَكَةٌ لِنَيْلِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَسْلِيطُ الْمُفْتِي الْعَامِّيَّ عَلَى تَحْكِيمِ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُ إِخْرَاجَهُ عَنْ هَوَاهُ رَمْيٌ فِي عِمَايَةٍ، وَجَهْلٌ بِالشَّرِيعَةِ، وَغِشٌّ فِي النَّصِيحَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى جارٍ فِي الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى"اهـ
قال الشاطبي رحمه الله (الموافقات 5/ 81 باختصار): "إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ قَوْلَا مُفْتِيَيْنِ؛ فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: ...، إنّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّبِعٌ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُ يَقْتَضِي ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيلُ صَاحِبِهِ؛ فَهُمَا صَاحِبَا دَلِيلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَاتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا بِالْهَوَى اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى؛ فَلَيْسَ إِلَّا التَّرْجِيحُ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا"اهـ.
حتى من علم دليل أحد القولين المختلفين، لا يسوغ له اتباعه بدون مرجح، وإلا كان متبعاً لهواه؛ قال الشاطبي رحمه الله (الموافقات 5/ 83): "لِأَنَّ اتِّبَاعَ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ مُحَالٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ لَهُ مَعَ فَرْضِ التَّعَارُضِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ؛ فَلَا يَكُونُ هنالك متبعا إلا هواه"اهـ.
وبالله التوفيق.