السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

قال وقلت ٢٩: خاطرة ففكرة فإرادة فعمل (سلوك)


قال: «ما أمراض القلوب؟».

قلت: مرض القلب: هو تغيره عن ما فطره الله عليه من الخير وحبه وطلبه.

وبداية المرض، وسببه الأول: الخواطر الواردة عليه.

فإن الخاطرة من أهم ما يصنع شخصية الإنسان؛

لأن الخاطرة تكون الفكرة.

والفكرة تكون الإرادة.

وبالإرادة -بعد إرادة الله- يكون العمل الذي يشكل السلوك، الذي هو من معالم الشخصية الإنسانية. 

ومراقبة الخواطر، بعد مراقبة الله، من أهم ما يقوم به العبد؛ لسلامة قلبه.
فإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.

[وَمن الْمَعْلُوم أَن إصْلَاح الخواطر أسهل من إصْلَاح الأفكار.

وَإِصْلَاح الأفكار أسهل من إصْلَاح الإرادات.

وَإِصْلَاح الإرادات أسهل من تدارك فَسَاد الْعَمَل.

وتداركه أسهل من قطع العوائد.

فأنفع الدَّوَاء أَن تشغل نَفسك بالفكر فِيمَا يَعْنِيك دون مَالا يَعْنِيك؛ فالفكر فِيمَا لَا يَعْنِي بَاب كل شَرّ.

وَمن فكّر فِيمَا لَا يعنيه:
- فَاتَهُ مَا يعنيه،
- واشتغل عَن أَنْفَع الْأَشْيَاء لَهُ بِمَا لَا مَنْفَعَة لَهُ فِيهِ،
فالفكر، والخواطر، والإرادة، والهمة أَحَق شَيْء بإصلاحه من نَفسك، فَإِن هَذِه خاصتك وحقيقتك الَّتِي تبتعد بهَا أَو تقرب من إلهك ومعبودك، الَّذِي لَا سَعَادَة لَك إِلَّا فِي قربه وَرضَاهُ عَنْك،  وكل الشَّقَاء فِي بعْدك عَنهُ، وَسخطه عَلَيْك.

وَمن كَانَ فِي خواطره ومجالات فكره دنيئًا خسيسًا، لم يكن فِي سَائِر أمره إِلَّا كَذَلِك.

وَإِيَّاك أَن تمكّن الشَّيْطَان من بَيت أفكارك وإرادتك؛ فَإِنَّهُ يُفْسِدهَا عَلَيْك فَسَادًا يصعب تَدَارُكه، ويلقي إِلَيْك أَنْوَاع الوساوس والأفكار المضرّة، ويحول بَيْنك وَبَين الْفِكر فِيمَا ينفعك. وَأَنت الَّذِي أعنته على نَفسك بتمكينه من قَلْبك وخواطرك فملكها عَلَيْك. فمثالك مَعَه مِثَال صَاحب رَحا يطحن فِيهَا جيّد الْحُبُوب، فَأَتَاهُ شخص مَعَه حمل تُرَاب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه فِي طاحونته، فَإِن طرده وَلم يُمكنهُ من إِلْقَاء مَا مَعَه فِي الطاحون اسْتمرّ على طحن مَا يَنْفَعهُ، وَإِن مكنه فِي إِلْقَاء ذَلِك فِي الطاحون أفسد مَا فِيهَا من الْحبّ وَخرج الطحين كُله فَاسِدًا.
وَالَّذِي يلقيه الشَّيْطَان فِي النَّفس لَا يخرج عَن الْفِكر فِيمَا كَانَ وَدخل الْوُجُود لَو كَانَ على خلاف وَذَلِكَ وَفِيمَا لم يكن لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون، أَو فِيمَا يملك الْفِكر فِيهِ من أَنْوَاع الْفَوَاحِش وَالْحرَام، أَو فِي خيالات وهمية لا حقيقة لَهَا، وَإِمَّا فِي بَاطِل، أَو فِيمَا لَا سَبِيل إِلَى إِدْرَاكه من أَنْوَاع مَا طوى عَنهُ علمه، فيلقيه فِي تِلْكَ الخواطر الَّتِي لَا يبلغ مِنْهَا غَايَة، وَلَا يقف مِنْهَا على نِهَايَة، فَيجْعَل ذَلِك مجَال فكره ومسرح وهمه.

وجماع إصْلَاح ذَلِك:
- أَن تشغل فكرك فِي بَاب الْعُلُوم والتصورات بِمَعْرِفَة مَا يلزمك التَّوْحِيد وحقوقه،
- وَفِي الْمَوْت وَمَا بعده إِلَى الدُّخُول إِلَى الْجنَّة وَالنَّار،
- وَفِي آفَات الْأَعْمَال وطرق التَّحَرُّز مِنْهَا،
- وَفِي بَاب الإرادات والعزوم أَن تشغل نَفسك بِإِرَادَة مَا ينفعك إِرَادَته، وَطرح إِرَادَة مَا يَضرك إِرَادَته.
وَعند العارفين: أَن تمني الْخِيَانَة، وإشغال الْفِكر وَالْقلب بهَا، أضرّ على الْقلب من نفس الْخِيَانَة، وَلَا سِيمَا إِذا فرغ قلبه مِنْهَا بعد مباشرتها، فَإِن تمنيها يشغل الْقلب بهَا، ويملؤه مِنْهَا، ويجعلها همه وَمرَاده.
... 

وَبِالْجُمْلَةِ فالقلب لَا يَخْلُو من الْفِكر؛
إما فِي وَاجِب آخرته ومصالحها.
وَإِمَّا فِي مصَالح دُنْيَاهُ ومعاشه.
وَإِمَّا فِي الوساوس والأماني الْبَاطِلَة، والمقدرات الْمَفْرُوضَة.

وَقد تقدم أَن النَّفس مثلهَا كَمثل رَحا تَدور بِمَا يلقى فِيهَا، فَإِن ألقيت فِيهَا حبا دارت بِهِ، وَإِن ألقيت فِيهَا زجاجا وحصا وبعرا دارت بِهِ، وَالله سُبْحَانَهُ هُوَ قيم تِلْكَ الرحا ومالكها ومصرّفها، وَقد أَقَامَ لَهَا ملكًا يلقِي فِيهَا مَا ينفعها فتدور بِهِ، شَيْطَانا يلقِي فِيهَا مَا يَضرهَا فتدور بِهِ؛

فالملك يلم بهَا مرّة.

والشيطان يلم بهَا مرّة.

فالحب الَّذِي يلَقِيه الْملك: إيعاد بِالْخَيرِ، وتصديق بالوعد.

وَالْحب الَّذِي يلقيه الشَّيْطَان: إيعاد بِالشَّرِّ، وَتَكْذيب بالوعد.

والطحين على قدر الْحبّ.

وَصَاحب الْحبّ المضر، لَا يتَمَكَّن من إلقائه، إِلَّا إِذا وجد الرَّحَى فارغة من الْحبّ النافع. وقيمها قد أهملها، وَأعْرض عَنْهَا، فَحِينَئِذٍ يُبَادر إِلَى إِلْقَاء مَا مَعَه فِيهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ: فقيم الرحا إِذا تخلى عَنْهَا، وَعَن إصلاحها، وإلقاء الْحبّ النافع فِيهَا وجد الْعَدو السَّبِيل إِلَى إفسادها وإرادتها بِمَا مَعَه.

وأصل صَلَاح هَذِه الرَّحَى بالاشتغال بِمَا يَعْنِيك.

وفسادها كُله فِي الِاشْتِغَال بِمَا لَا يَعْنِيك.


وَمَا أحسن مَا قَالَ بعض الْعُقَلَاء: «لما وجدت أَنْوَاع الذَّخَائِر مَنْصُوبَة غَرضًا للمتألف، وَرَأَيْت الزَّوَال حَاكما عَلَيْهَا مدْركا لَهَا، انصرفت عَن جَمِيعهَا إِلَى مَا لَا يُنَازع فِيهِ الحجا أَنه أَنْفَع الذَّخَائِر، وَأفضل المكاسب، وأربح المتاجر، وَالله الْمُسْتَعَان».]. (الفوائد لابن القيم، ص: 175-177).