السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الخميس، 15 يناير 2015

كشكول ٥٢٠: مخاطبة الرؤساء باللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً.


مخاطبة الرؤساء باللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعرفاً.

قال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 652 - 653):
«كثير من الناس يطلب من صاحبه -بعد نيله درجة الرياسة- الأخلاق التي كان يعامله بها قبل الرياسة فلا يصادفها؛
فينتقض ما بينهما من المودة!
وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة.
وهو بمنزلة من يطلب من صاحبه إذا سكر أخلاق الصاحي؛
وذلك غلط فإن الرياسة سكرة كسكرة الخمر أو أشد،
ولو لم يكن للرياسة سكرة لما اختارها صاحبها على الآخرة الدائمة الباقية، فسكرتها فوق سكرة القهوة بكثير،
ومحال أن يرى من السكران أخلاق الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين؛
فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعًا وعقلاً وعرفًا. ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه. وهكذا كان النبي [مع] رؤساء العشائر والقبائل.
وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى}.
فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مخرج الأمر وقال: {إلى أن تزكى}. ولم يقل: إلى أن أزكيك، فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ (التزكي) دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: {وأهديك إلى ربك} أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك، وقال: {إلى ربك} استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرًا، ويافعًا، وكبيرًا. وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا}.
فابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره، ولم يسمه باسمه، ثم أخرج الكلام معه مخرج السؤال فقال: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا}. ولم يقل: لا تعبد، ثم قال: {يا ابت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك}، فلم يقل له: جاهل لا علم عندك، بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال: {جاءني من العلم ما لم يأتك}، ثم قال: {فاتبعني أهدك صراطًا سويا}، هذا مثل قول موسى لفرعون : {وأهديك إلى ربك}، ثم قال: {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا}، فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه كما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: {يمسك} فذكر لفظ المس الذي هو ألطف من غيره، ثم نكر العذاب، ثم ذكر الرحمن، ولم يقل: الجبار، ولا القهار؛ فأي خطاب ألطف وألين من هذا. ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال: {يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}. ونظير ذلك قول نوح لقومه: {يا قوم إني لكم نذير مبين أن أعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}. وكذلك سائر خطاب الأنبياء [لأممهم] في القرآن إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه، بل خطاب الله لعباده ألطف خطاب وألينه كقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ...}. الآيات .
وقوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له}.
وقوله: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}.
وتأمل ما في قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} من اللطف الذي سلب العقول.

وقوله تعالى: {فنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} على أحد التأويلين، أي نترككم فلا ننصحكم ولا ندعوكم، ونعرض عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم . وتأمل لطف خطاب نذر الجن لقومهم وقولهم: {يا قومنا أجيبوا داعى الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم}.»اهـ.