السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الجمعة، 19 ديسمبر 2014

سؤال وجواب ٦٧: هل يقع الطلاق لمن ينطبق عليه الطلاق البدعي؟


سؤال: «إنني سبق أن طلقت زوجتي طلقتين، وكنت وقتها في غضب شديد، ثم تلفظت مؤخراً بلفظ الطلاق مرّة واحدة، وكانت في طهر جامعتها فيه؛ فأرجو من فضيلتكم إفتائي مع الدليل الشرعي هل مازالت في عصمة نكاحي أم لا؟، وجزاكم الله خيراً». 

الجواب: الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أمّا بعد: 
فإن الطلاق ينقسم إلى قسمين:
طلاق سني.
وطلاق بدعي.

أمّا الطلاق السني، الذي أحلّه الله؛ فهو أن يطلق الرجل زوجته بعد أن تطهر من الحيض قبل أن يطأها طلقة واحدة. فإذا كانت لا تحيض طلقها في أي وقت شاء. وكذا له أن يطلقها إذا تبين حملها. 

أمّا الطلاق البدعي، الذي حرّمه الله؛ فهو أن يطلقها على غير الصفة السابقة، وهذا يشمل الأحوال التالية:
1- أن يطلقها في الحيض.
2- أن يطلقها في طهر جامعها فيه.
3- أن يجمع عليها أكثر من طلقة في فم واحد أو مجلس واحد.
4- أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ثم يطلقها الثانية أو الثالثة في ذلك الطهر قبل أن يراجعها. 
وهذا التقرير السابق لأنواع الطلاق محل إجماع([1]). 

وإنما حصل النزاع بين أهل العلم في الطلاق البدعي المحرم فيما يقع به على قولين:

القول الأوّل: أنه يلزم، فيقع الطلاق به. وهذا عليه الأكثرون؛ فإنهم يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه. 

القول الثاني: أنه لا يلزم، فلا يقع الطلاق به. وهذا عليه جماعة من أهل العلم، منهم طاووس وعكرمة، وخلاس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وأهل الظاهر كداود وأصحابه، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وبروى عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت([2])، وهو قول ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، وأحمد شاكر، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، في آخرين. 
والمسألة من مسائل الإجتهاد، إذ ليس فيها حجة يجب التزامها والمصير إليها. وأصحاب القول الأول ليس معهم ما يدل لقولهم، إلا دعواهم الإجماع، والاستدلال بعمومات، وقياسات قاسوها لا تسلّم لهم([3]). 

أمّا أصحاب القول الثاني، القائلين بعدم وقوع طلاق الرجل إذا طلق امرأته في طهر جامعها فيه، فإنهم قرروا قولهم بأمور، منها:

أولاً: أن الأصل ثبوت عقد النكاح بيقين،  فلا يزال بمجرد شك، والقاعدة الشرعية «اليقين لا يُزال بالشك». ويوضح هذا: أن من طلّق امرأته في طهر جامعها فيه ارتكب فعلاً محرماً، ولكن هل يلزم بذلك، فتطلق عليه زوجته، هذا محل نزاع بين أهل العلم، ولا يقين من كتاب أو سنة أو إجماع، أنه يلزمه الطلاق والحال هذه([4]). ويتأكد هذا بما يلي: 

ثانياً: أن هذا الطلاق لم يشرعه الله، فهو طلاق محرم بدعي بإجماع المسلمين، فكيف يلزم ويوقع به؟ وبعبارة أخرى: إن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى أبداً، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يقال بنفوذه وصحته؟([5]). قال ابن تيمية -رحمه الله-: «الأصل الذي عليه السلف والفقهاء: أن العبادات والعقود المحرّمة إذا فعلت على الوجه المحرّم لم تكن لازمة صحيحة. وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام، فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم»اهـ([6]).

ثالثاً: أن الأصل: أن كل شيء ليس من شرع الله؛ فهو مردود على صاحبه. قال الشوكاني -رحمه الله-: «الحاصل أن الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة، يقال له: طلاق بدعة. وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-: «أن كل بدعة ضلالة». ولا خلاف أيضاً أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه، وبيّنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر، وما خالف ما شرعه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهو رد؛ لحديث عائشة عنه -صلى الله عليه وسلم-: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهو حديث متفق عليه. فمن زعم أن هذه البدعة يلزم حكمها، وأن هذا الأمر الذي ليس من أمره -صلى الله عليه وسلم يقع من فاعله ويعتد به، لم يُقبل منه ذلك إلا بدليل»اهـ([7]). 

رابعاً: [أن الأصل في عقد النكاح البقاء والاستمرار، وهو عقد بين اثنين هما الزوجان، والأصل في العقود أن فسخها كابتدائها، يجب فيه رضا العاقدين. وأباح الشارع الطلاق من أحد طرفي العقد وحده وهو الزوج على غير القياس في فسخ العقود أو إلغائها؛ فيجب الاقتصار على ما ورد عنه، والوقوف عند الحد الذي أباحه؛ فكل صفة للطلاق غير الصفة التي أذن بها الشرع لا أثر لها في العقد. ولا يجوز قياس الممنوع على الجائز، كما لا يجوز قياس أحد طرفي العقد على الآخر؛ فإن المرأة لا يجوز لها أن تطلق نفسها إلا إذا فوّض الزوج إليها وتلقته عنه]([8]). 

وأختم بنقول من كلام ابن تيمية، والشوكاني، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -غفر الله لهم-. 

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «الطلاق منه طلاق سنة أباحه الله تعالى، وطلاق بدعة حرمه الله. فطلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، أو يطلقها حاملاً قد تبين حملها.  فإن طلقها وهي حائض، أو وطئها وطلقها بعد الوطء قبل أن يتبين حملها؛ فهذا طلاق محرم، بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وتنازع العلماء هل يلزم أو لا يلزم؟ على قولين. والأظهر أنه لا يلزم»اهـ([9]). وقال في موضع آخر بعد بيانه للطلاق المحرم البدعي: «والأظهر أنه لا يقع»اهـ([10]). 

وقال الشوكاني -رحمه الله- في كلامه عن الطلاق: «هو جائز من مكلف مختار ولو هازلاً  لمن كانت في طهر لم يمسها فيه، ولا طلقها في الحيضة التي قبله، أو في حمل قد استبان. ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة. وفي وقوعه ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف. والراجح عدم الوقوع»اهـ([11]). 

وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -حفظه الله-: «تعتبر المرأة طالقاً إذا أوقع زوجها عليها الطلاق وهو عاقل مختار، ليس به مانع من موانع وقوع الطلاق -كالجنون والسكر ونحو ذلك- وكانت المرأة طاهرة طهراً لم يجامعها فيه، أو حاملاً أو آيسة.  أمّا إذا كانت المطلقة حائضاً أو نفساء أو في طهر جامعها فيه، وليست حبلى ولا آيسة؛ فإنه لا يقع عليها الطلاق في أصح قولي العلماء، إلا أن يحكم بوقوعه قاض شرعي، فإن حكم بوقوعه وقع؛ لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية»اهـ([12]). 
قلت: ولا يفهم من كلام سماحة الشيخ أنه يلزم للمستفتي الرجوع إلى الحاكم الشرعي، وإنما مراده -حفظه الله-، بيان أن حكم القاضي يرفع النزاع في مسائل الاجتهاد، وإلا فلو سأل المسلم أهل العلم في المسألة فقد حصل منه امتثال الأمر الشرعي في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

والخلاصة من جميع ما تقدّم: أن الرجل إذا طلّق زوجته في طهر جامعها فيه، أنه ارتكب أمراً محرماً يأثم به، ولكن لا يقع عليه طلاق زوجته
أمّا بخصوص الطلقة الأولى والثانية التي ذكر أنه كان وقتها في غضب شديد، لمّا وقعت منه؛ فإن هذه المسألة تحتاج إلى نظر في هذا الغضب هل يغلق عليه فيه، وهل هناك بينة معتبرة تشهد بأنه يبلغ تلك الحالة، وأنه قد بلغ هذه الحالة عندما تلفظ بالطلاق في المرة الأولى والثانية، أم لا؟ وذلك لأن الغضب الذي لا يقع معه الطلاق هو الغضب الذي يغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته. 
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: «الغضب على ثلاثة أقسام: 
أحدها: ما يزيل العقل، فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثاني: ما يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه.
الثالث: أن يستحكم ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية، ولكن يحول بينه وبين نيته، بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر، وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه»اهـ([13]). 
قلت: وعندي أن هذه الحال الثالثة ينظر فيها إلى حال من وقع منه التلفظ بالطلاق، وذلك يعود إلى نظر المفتى، والله أعلم. 
وحيث أن السائل ذكر أنه تلفظ بطلاق زوجته في طهر جامعها فيه، وبحسب كلام أهل العلم السابق، ومنهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز؛ فإن طلاقه لا يقع. وتعتبر زوجته مازالت في عصمة نكاحه. هذا والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم.

__________________________________ 
([1]) مجموع الفتاوى ( 33/66-67). 
([2]) مجموع الفتاوى (33/81-82). 
([3]) ناقشهم فيها وبيّن بطلانها وعدم صلاحيتها للحجة ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (5/229-241). 
([4]) زاد المعاد (5/223). 
([5]) زاد المعاد (5/223). 
([6]) مجموع الفتاوى (33/24). 
([7]) وبل الغمام على شفاء الأوام (2/70-71). وانظر مجموع الفتاوى (33/101)، زاد المعاد (5/224). تنبيه: هذا هو الأصل، فإن ثبت دليل على إخراج صورة من هذه الصور صير إليها؛ ولذلك ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وغيرهم -رحمهم الله-، يحكمون بوقوع طلقة واحدة في الطلقات المجموعة؛ لورود الدليل بذلك فيها على خصوصها، وكذا إيقاع الطلقة على الحائض عند الألباني؛ فإنه يوقعه لورود دليل ثبت عنده بخصوصها. 
([8]) من كلام أحمد شاكر في تعليقه على الروضة الندية (2/48). 
([9]) مجموع الفتاوى (33/72). وانظر منه (33/24، 71). 
([10]) مجموع الفتاوى (33/66). 
([11]) الدرر البهية، مع شرحها الدراري المضية (2/69). 
([12]) الفتاوى لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز/ كتاب الدعوة / الجزء الثاني / الطبعة الثانية 1414-1415هـ/ ص235. 

([13]) زاد المعاد (5/215).