السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الاثنين، 4 مايو 2015

كشكول ٨٨٥: من باب ... ساعة وساعة. بوح الكلمات



من باب ... ساعة وساعة
بوح الكلمات
كان للشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري -سلمه الله-، سلسلة مقالات ينشرها في المجلة (العربية) بعنوان تباريح.
والتباريح : الشدائد ، وتباريح الشوق توهجه.
وبي من تباريح الصبابة لوعة * قتيلة أشواقي وشوقي قتيلها
والكتابة بهذا المعنى لا يكاد يخلو منها تراث العلماء، ولكل واحد منهم طريقته في بث لواعج قلبه وروحه، بين سانح وسوانح وبارح وبوارح.
والبوح للقلم ، والتدثر بالورقة، والرمز بالمعنى فن يتقنه كل من اشتدت عليه التباريح وسنحت لخاطره السوانح، ولا يستطيع البوح بها للناس.
تجد لابن حزم في (طوق الحمامة).
ولابن الجوزي في (صيد الخاطر).
وتجد لابن القيم في (روضة المحبين) ، و(الفوائد)، و(بدائع الفوائد).
ومن الأدباء الرافعي له في (وحي القلم) و (حديث القمر).
والبوح قد يكون بالنفس وقد يكون بالغير.
فقد تكتفي في بوحك بترديد أبيات شعرية تصف حالك لشاعر من الشعراء. أو تذكر قصة غيرك ممن برح به شوقه، فاضطرب بوحه، فتذكرها تسلية لخاطرك ولنفسك.
وطالب العلم يحتاج للبوح، فلابد له من كتب الأدب، تسعفه، ويبوح بها عن ما بنفسه، قال ابن عبد البر -رحمه الله-، في مقدمة كتابه: (بهجة المجالس وأنس المجالس):
«وقد جمعت في كتابي هذا من الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والحكم البالغة، والحكايات الممتعة في فنون كثيرة وأنواع جمة، من معاني الدين والدنيا، ما انتهى إليه حفظي ورعايتي، وضمته روايتي وعنايتي؛ ليكون لمن حفظه ووعاه، وأتقنه وأحصاه؛
زيناً في مجالسه،
وأنساً لمجالسه،
وشحذاً لذهنه وهاجسه،
فلا يمر به معنى في الأغلب مما يذاكر به، إلا أورد فيه بيتاً نادراً، أو مثلاً سائراً، أو حكاية مستطرفة، أو حكمة مستحسنة، يحسن موقع ذلك في الأسماع، ويخفف على النفس والطباع، ويكون لقارئه أنساً في الخلاء، كما هو زين له في الملاء، وصاحباً في الاغتراب، كما هو حلي بين الأصحاب.
وجمعت في الباب به منه المعنى وضده لمن أراد متابعة جليسه فيما يورده في مجلسه، ولمن أراد معارضته بضده في ذلك المعنى بعينه، ليكون أبلغ وأشفى وأمتع»اهـ .
والبوح من خلال غيرك؛ طريقة من طرق التنفيس عن النفس وإراحتها!
وفي الموطأ في كتاب النذور والأيمان، بَابٌ فِيمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَعَجَزَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ جَدَّةٍ لِي عَلَيْهَا مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَجَزَتْ. فَأَرْسَلَتْ مَوْلًى لَهَا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَخَرَجْتُ مَعَهُ. فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ ثُمَّ لْتَمْشِ مِنْ حَيْثُ عَجَزَتْ».
عروة بن أذينة هذا محدث صدوق، من التابعين سمع ابن عمر، وأحد شيوخ مالك وعبيد الله بن عمر؛ يقول:
وَلَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى الدِّيَارِ لَعَلَّهَا *** بِجَوَابِ رَجْعِ تَحِيَّةٍ تَتَكَلَّمُ
وَالْعِيسُ تَسْجَعُ بِالْحَنِينِ كَأَنَّهَا *** بين المنازل حين تسجع مأتم
نزلوا ثلاثة مِنِّي بِمَنْزِلِ غِبْطَةٍ *** وَهُمْ عَلَى عَجَلٍ لَعَمْرِك مَا هُمُ
مُتَجَاوِرَيْنِ بِغَيْرِ دَارِ إِقَامَةٍ *** لَوْ قَدْ أَجَدَّ رَحِيلُهُمْ لَمْ يَنْدَمُوا
وَلَهُنَّ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لِبانَةٌ *** وَالْحَجَرُ يَعْرِفُهُنَّ لَوْ يَتَكَلَّمُ
لَوْ كان حيا قبلهن ظعائنا *** حيا الحطيم وجوههن وَزَمْزَمُ
ومن قوله الذي يترقرق عذوبة:
إن التى زعَمَتْ فؤادكَ ملَّها *** خُلقتْ هواكَ كما خُلقتَ هوى لها
بيضاءُ باكرَها النعيمُ فصاغَها *** بلباقةٍ فأدقَّها وأجلَّها
حَجَبتْ تحيتها فقلتُ لصاحبى *** ما كان أكثرَهَا لنا وأقلَّها
وإذا وجدتُ ولا وساوسَ سلوةٍ *** شفعَ الضميرُ إلى الفؤاد فَسَلَّها
ومن بديع ما أنشد:
قالتْ، وأبثثتُها وجدي فبُحتُ به *** قد كنتَ عندى تحبُّ السَّتْرَ فاسْتَتِرِ
ألستَ تبصرُ مَنْ حولي فقلت لها *** غطَّى هواكِ وما ألقى على بصرى

وهو الذي يقول:
إذا وَجَدتُ أوار الحبِّ فى كبدي *** عمدتُ نحو سِقاءِ الماءِ أبْتَرِدُ
هبني بردتُ بِبَرد الماء ظاهره *** فمَن لِنارٍ على الأحشاء تَتَّقدُ
وكل هذا عندي من البوح، لتخفيف عناء التباريح.

سلمنا الله وإياكم من تباريح الهوى والجوى، ورزقنا الله وإياكم لذة النظر إلى وجهه الكريم، جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين!