السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الاثنين، 12 يونيو 2017

كشكول ١٥٢٩: من نفيس كلام الشافعي -رحمه الله- عن الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم


من نفيس كلام الشافعي رحمه الله في كتاب (الرسالة)، عن الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم؛ أذكرني به الأخ معاش عبدالقادر جزاه الله خيراً
قال الشافعي في الرسالة (1/ 560 - 571): "قال: فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟
قال: فقلت له: الاختلاف من وجهين: 
أحدهما: محرم. ولا أقول ذلك في الآخر.
قال: فما الاختلاف المحرم؟
قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً: لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه.
وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره: لم أقل أنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الخلاق في المنصوص.
قال: فهل في هذا حجة تُبَين فرقك بين الاختلافين؟
قلت: قال الله في ذم التفرق: ﴿وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتابَ إلا من بعد ما جاءتهم البينةُ﴾ (البينة: 4).
وقال جل ثناؤه: ﴿ولا تكونوا كالذين تَفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات﴾ (آل عمران: 105)؛ فَذَمَّ الاختلاف فيما جاءتهم به البينات.
فأما ما كُلِّفوا فيه الاجتهاد، فقد مَثَّلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها.
قال: فَمَثِّل لي بعض ما افترق عليه من رُوي قوله من السلف، مما لله فيه نصُّ حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة؟
قلت: قَلَّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دِلالة من كتاب الله أو سنة رسوله، أو قياساً عليهما، أو على واحد منهما.
قال: فاذكر منه شيئاً؟
فقلت له: قال الله: ﴿والمطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهِنَّ ثلاثةَ قُرُوْء﴾ (البقرة 228)؛ فقالت عائشة: "الأقراء الأطهار"، وقال بمثل معنى قولها زيدُ بن ثابت، وابن عمر، وغيرهما.
وقال نفر من أصحاب النبي: " الأقراء الحيض"، فلا يُحِلُّوا المطلقةَ حتى تغتسل من الحيضة الثالثة.
قال: فإلى أي شيء ترى ذهب هؤلاء وهؤلاء؟
قلت: تجُمع الأقراء أنها أوقات، والأوقاتُ في هذا علامات تمرُّ على المطلقات، تحُبس بها عن النكاح حتى تستكملها.
وذهب من قال" الأقراء الحيض" - فيما نُرى والله أعلم - إلى أن قال: إن المواقيت أقلُّ الأسماء، لأنها أوقات، والأوقات أقل مما بينها، كما حُدُوُد الشيء أقلُّ مما بينها، والحيضُ أقل من الطُّهر، فهو في اللغة أَولى للعِدَّة أن يكون وقتاً، كما يكونُ الهلال وقتاً فاصلاً بين الشهرين.
ولعله ذهب إلى أن النبي أمر في سَبيْ أوطاسٍ أن يُسْتَبْرَينَ قبل أن يُوطَينَ بحيضة، فذهب إلى أن العِدة استبراء، وأن الاستبراء حيضٌ، وأنه فرَقَ بين استبراء الأمة والحرة، وأن الحرة تُستبرأ بثلاث حِيَض كواملَ، تخرج منها إلى الطُّهر كما تُستبرأ الأمة بحيضة كاملة، تخرج منها إلى الطُّهر.
فقال: هذا مذهب، فكيف اخترتَ غيره، والآية محتملة للمعنيين عندك؟
قال: فقلت له: إن الوقت برؤية الأهِلَّة إنما هو علامة جعلها الله للشهور، والهلالُ غير الليل والنهار، وإنما هو جِماع لثلاثين، وتسعٍ وعشرين، كما يكون الهلال الثلاثون والعشرون جماعاً يُستأنف بعده العدد، وليس له معنى هنا، وأن القُرْء وإن كان وقتاً فهو من عدد الليل والنهار، والحيضُ والطهر في الليل والنهار من العدة، وكذلك شُبِّه الوقت بالحدود، وقد تكون داخلة فيما حُدَّت به، وخارجةً منه غيرَ بائن منها، فهو وقت معنى.
قال: وما المعنى؟
قلت: الحيض هو أن يُرخِيَ الرَّحمُ الدمَ حتى يظهر، والطُّهر أن يَقْري الرَّحِمُ الدمَ فلا يظهرُ، ويكون الطهر والقَرْي الحبس لا الإرسال، فالطهر - إذ كان يكون وقتاً - أولى في اللسان بمعنى القُرء، لأنه حبْس الدم.
وأمر رسول الله عمرَ حين طلَّق عبدُ الله بن عمر امرأته حائضاً أن يأمره برَجعتها وحَبسِها حتى تطهر، ثم يطلِّقُها طاهراً من غير جماع، وقال رسول الله: " فتلك العِدَّةُ التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساءُ" .
يعني قول الله - والله أعلم - ﴿إذا طلَّقتُمُ النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعِدَِّتهِنَّ﴾ (الطلاق 1)، فأخبر رسول الله أن العدةَ الطهرُ دون الحيض.
وقال الله: ﴿ثلاثة قروء﴾ وكان على المُطَلَّقة أن تأتي بثلاثة قروء، فكان الثالثُ لو أبطأ عن وقته زماناً لم َتحِلَّ حتى يكون، أو تُويَسَ من المحيض، أو ُيخافَ ذلك عليها، فتَعْتَدَّ بالشهور، لم يكن للغُسل معنى، لأن الغسل رابعٌ غيرُ ثلاثة، ويلزم مَن قال: "الغسل عليها" أن يقول: لو أقامت سنةً وأكثر لا تغتسل لم تحِلَّ!!
فكان قول من قال" الأقراء الأطهار " أشبهَ بمعنى كتاب الله، واللسانُ واضح على هذه المعاني، والله أعلم.
فأما أمر النبي أن يُستبرأ السَّبْي بحيضة فبالظاهر، لأن الطهر إذا كان متقدِّماً للحيضة ثم حاضت الأمة حيضة كاملة صحيحة بَرِئَت من الحَبَلِ في الطهر، وقد ترى الدمَ فلا يكون صحيحاً، إنما يصح حيضةً بأن تُكمل الحيضة فبأي شيء من الطهر كان قبل حيضة كاملة فهو براءة من الحَبَل في الظاهر.

والمعتدة تَعْتدُّ بمعنيين: استبراءٌٍ، ومعنى غيرُِ استبراءٍ مع استبراء، فقد جاءت بحيضتين وطُهرين وطهرٍ ثالث، فلو أريد بها الاستبراء كانت قد جاءت بالاستبراء مرتين، ولكنه أريد بها مع الاستبراء التَعَبُّد"اهـ.