الصلاة في الروضة الشريفة:
يتزاحم بعض الناس على الصلاة في الروضة الشريفة في المسجد النبوي، ظناً منهم أن للصلاة فيها خصوصية، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ». (أخرجه البخاري في (كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)، بَابُ فَضْلِ مَا بَيْنَ القَبْرِ وَالمِنْبَرِ، حديث رقم:(١١٩٥)، ومسلم في (كتاب الحج)، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة، حديث رقم: (١٣٩٠). من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وهذا فيه نظر؛ لأن الظاهر المراد من الحديث الإشارة إلى حلق الذكر، والدروس التي كانت بين بيته ومنبره؛ فوصف ذلك المحل بما توصف به حلق الذكر، من أنها روضة من رياض الجنة، وبهذا يظهر أن لا خصوصية للصلاة في هذا المكان، بهذا الحديث!
قال ابن عبدالبر -رحمه الله-: «اختلف العلماء في تأويل قوله -عليه السلام-: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة»؛
فقال منهم قائلون: «ترفع تلك البقعة يوم القيامة فتجعل روضة من الجنة».
وقال آخرون: «هذا على المجاز».
قال أبو عمر: «يعنون أنه لما كان جلوسه وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هنالك، شبه ذلك الموضع بالروضة؛ لكريم ما يجتنى فيها، وأضافها إلى الجنة كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «الجنة تحت ظلال السيوف.»، يعني: أنه عمل يدخل المسلم الجنة. وكما جاء في الحديث: «الأم باب من أبواب الجنة»، يريد أن برها يقود المسلم إلى الجنة.
ومثل هذا معلوم من لسان العرب» اهـ(الاستذكار (٢/٤٦٣).).
وعليه، فإن تخصيص هذه البقعة الشريفة بهذا الوصف: «روضة من رياض الجنة» من دون سائر المسجد؛ لما كان يقام عليها من مجالس العلم، وتعليم الدين والقرآن.
وهو كقوله -صلى الله عليه وسلم-، فيما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا». قَالُوا: «وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟»، قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ». (أخرجه أحمد (الميمنية ٣/١٥٠)، (الرسالة ١٩/٤٩٨، تحت رقم: ١٢٥٢٣)، والترمذي في (أبواب الدعاء)، باب، حديث رقم: (٣٥١٠). والحديث قال الترمذي -رحمه الله-: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ» اهـ، وحسنه الألباني لغيره، في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم: (٢٥٦٢)، وقال محققو المسند: «إسناده ضعيف لضعف محمد: وهو ابن ثابت البُناني» اهـ، لكنهم ذكروا في التخريج له طريقاً يصلح للمتابعة، وشواهد تقويه إلى الحسن لغيره.)؛
فلا يفهم من الحديث تخصيص هذه الروضة الشريفة بكثرة صلاة عن سائر المسجد، كما هو مشاهد اليوم، فإني لا أذكر أن أحداً من السلف كان يقصد الروضة الشريفة، ويخصها بالإكثار من الصلاة فيها كما يصنع اليوم، والله أعلم.
وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله- هذه الأقوال في معنى الحديث، ورتبها بحسب قوتها، فقال: «قوله: «روضة من رياض الجنة» أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة، وحصول السعادة، بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده -صلى الله عليه و سلم- فيكون تشبيها بغير أداة.
أو المعنى: أن العبادة فيها تؤدى إلى الجنة، فيكون مجازًا.
أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقة، بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة.
هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة» اهـ(فتح الباري (٤/١٠٠).).