السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الاثنين، 20 أكتوبر 2014

كشكول ١٣: نقل الدين


إن قيل: «الروايات التي جاءت في بناء الكعبة لا تثبت من جهة الرواية؟»

فالجواب:

اعلم أن الدين نقل إلينا: عن طريق الأسانيد، وعن طريق العمل؛

وللتصحيح والتضعيف طرائق ترجع إلى هذين الاعتبارين!

- فالنظر في الأسانيد يرجع فيه إلى (طريقة المحدثين).

- والنظر في العمل يرجع فيه إلى (طريقة الفقهاء والأصوليين).

والأول: معروف معلوم.

والثاني: ينظر فيه إلى تواتر الأمر، وإلى شهرته، وجريان العمل به، وتداوله بين العلماء بدون نكير، ونحو ذلك.

والأخبار الواردة في (بَاب مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ)، جملة كبيرة منها لا تثبت بطريقة المحدثين، ولكنها تثبت بطريقة الفقهاء والأصوليين، حيث تجد دلالات آيات وأحاديث تشير إلى صحة هذا القول أو ذاك.

مثال: إثبات ملكية أرض؛
- يكون بالصك.
- وبالوثيقة.
- وبالشهود.
- وبالشهرة.
- وبوضع اليد والتصرف فيها.

وتوهم أن الدين لا يثبت إلا بالسند الصحيح على طريقة المحدثين؛ خطأ!

ولذلك نبه ابن الصلاح عند بداية كلامه على الصحيح، أن صحة السند لا تعني ثبوته في نفس الأمر؛ لأنه قد تكون له علة قادحة ولم تعلم حينها، وضعف السند لا يعني عدم ثبوته في نفس الأمر.

وكما أن الحديث يتقوى بتداوله بين العلماء بالقبول، كذا يُعل بتركهم له، وعدم عملهم به، مع أن ظاهر إسناده الصحة، فيجعل تركهم للعمل به دليلاً على بطلانه أو نسخه (شرح العلل لابن رجب/همام/ (١/٣٢٤-٣٣٢).). وكانوا يرون العلم هو الخبر المشهور الذي يأتيك من هنا وها هنا، فهو ما عرف و تواطأت عليه الألسن (شرح العلل لابن رجب/همام/ (٢/٦٢١).) .

قال مهنا: «قال أحمد: «الناس كلهم أكفاء، إلا الحائك، والحجام، والكساح». فقيل له: «تأخذ بحديث: «كل الناس أكفاء، إلا حائكاً، أو حجاماً» وأنت تضعفه؟!» فقال: «إنما نضعف إسناده، ولكن العمل عليه».».

وقال مهنا: «سألت أحمد عن حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة. قال: «ليس بصحيح، والعمل عليه؛ كان عبدالرزاق يقول: «معمر عن الزهري مرسلا».». (المسوّدة ص: ٢٧٤.) .

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي (ابن الخراط) (ت٥٨٢هـ) -رحمه الله- في مقدمة كتابه (الأحكام الوسطى ١/٧٠)، معتذراً عن إيراده بعض الأحاديث المعتلة: «أو يكون حديث تعضده آية ظاهرة البيان من كتاب الله تعالى، فإنه وإن كان معتلاًّ أكتبه؛ لأن معه ما يقويه ويذهب علته» اهـ.

قال أبو الحسن بن الحصار -رحمه الله-: «قد يعلم الفقيه صحة الحديث -إذا لم يكن في سنده كذاب- بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة؛ فيحمله ذلك على قبوله والعمل به» اهـ. (تدريب الراوي (١/٦٧،٦٨).).

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «الخبر إما أن يعلم صدقه أو كذبه أوْ لا؛

الأول: ما علم صدقه، وهو في غالب الأمر بانضمام القرائن إليه:

- إما رواية من لا يقتضى العقل تعمدهم وتواطؤهم على الكذب.
- أو احتفاف قرائن به.

وهو (أي العلم بصدق الخبر) على ضربين:

أحدهما: ضروري ليس للنفس في حصوله كسب.
و منه ما تلقته الأمة بالقبول، وأجمعوا على العمل به، أو استندوا إليه في العمل؛ لأنه لو كان باطلاً لم يعملوا به؛ لامتناع اجتماعهم على الخطأ، وهو (أي الخبر) لا يضره كونه بنفسه لا يفيد العلم، كالحكم المجمع عليه المستند إلى قياس واجتهاد ورأي؛ [لأن] الظن والقطع من عوارض اعتقاد الناظر بحسب ما يظهر له من الأدلة والخبر في نفسه لم يكتسب صفة (لم يذكر -رحمه الله- الضرب الثاني من العلم: وهو الكسبي الذي يحصل بالنظر والبحث. ولكنه أشار إليه في أثناء كلامه.).

الثاني [من أنواع الخبر]: ما يعلم كذبه، أو بتكذيب العقل الصريح، أو الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو غير ذلك عند أقسام تلك التأويلات -وهو كثير- أو بقرائن.
والقرائن في البابين (يعني: باب التصحيح، وباب التضعيف) لا تحصل محققة إلا لذي دراية بهذا الشأن وإلا فغيرهم جهلة به.

الثالث: المحتمل. وينقسم إلى: مستفيض، وغيره. وله درجات، فالخبر الذي رواه الصديق والفاروق لا يساوي ما رواه غيرهما من أصاغر الصحابة، وقليل الصحبة» اهـ. (مجموع الفتاوى (١٨/٤٤-٤٥)، باختصار وتصرف يسير. وقارن هذا الفصل بكلام الحازمي في (شروط الأئمة الخمسة، ص: ١٤٤-١٤٥.).

فتوهم أن الخبر لا يثبت إلا بالسند فقط خطأ؛

فقد يثبت الأمر بأشياء أخرى غير الخبر، بدلالات النصوص ومعانيها تدل على ثبوت هذا المعنى؛ ومما يصلح مثالاً: هذه المسألة في بناء الكعبة؛ فقد قامت دلالات القرآن والسنة على معاني جاءت في روايات لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية، ولكنها ثابتة بأمور أخرى.

ولذلك قالوا: «الإسناد من الدين»، ولم يقولوا: الدين هو الإسناد؛

فالإسناد من الدين، فأمور الدين قد تثبت بالسند، وقد تثبت بغير السند، من ذلك التواتر، والتواتر ليس من مباحث السند.

والتواتر ثبت به القرآن العظيم.

ومجمل الدين في عموماته الظاهرة تواتر تواترًا معنويًا.

وهذا يبين أن العلاقة بين منهج المحدثين والفقهاء، علاقة تكامل لا تعارض واختلاف!

ولكي أقرب ذلك أكثر، أسأل: «من هم أئمة الفقهاء؟»

الجواب: هم أئمة المحدثين: الإمام أبو حنيفة، الإمام مالك، الإمام الشافعي، الإمام أحمد بن حنبل.

هؤلاء أئمة الفقهاء وهم أئمة المحدثين.

فهل يتصور والحال هذه، أن منهجهم الفقهي يعارض ويخالف منهجهم الحديثي؟!

وهذا يشرح ويفسر سبب وجود أحاديث ضعيفة السند في كتب في العقيدة والتفسير والحديث والفقه!

واعتماد هذين المنهجين تارة يصحح اللفظ والمعنى، وتارة يصحح المعنى دون اللفظ.

وهذه القاعدة تنفعك حينما تطالع كتاباً مثل كتاب: (تاريخ مكة للأزرقي)، و(تاريخ مكة للفاكهي).