السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الخميس، 15 أكتوبر 2015

خبر الكتاب ٥٨


خبر الكتاب: (58).
ذم بعض أهل العلم المختصرات في الفنون والعلوم؛
والواقع أن مطالعة المختصرات نافعة للمنتهين الكبار من أهل العلم، أما المبتدئ فإن مطالعتها قد تسبب له مشكلة ما لم يستعن عليها بشروح مبسوطة تقرر معانيها وتفتح مستغلق مبانيها.
والذي أنصح به طالب العلم أن يطالع الكتب التي تذكر الدليل وتأتي بالمسألة على وجهها، فإنها نافعة له جداً.
ومن ذلك في الفقه :
الأوسط لابن المنذر.
الاستذكار لابن عبدالبر النمري.
المغني لابن قدامة .
هذا في كتب الفقه.
وكذا في سائر العلوم.
فائدة : ذكر كلمة ابن خلدون في ذلك ؛
ذم بعض أهل العلم المختصرات في الفنون؛ قال ابن خلدون في مقدمته: "الفصل السادس والثلاثون، في أن كثرة الاختصارات الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم ؛ ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان، فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم .... ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة، فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. " ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له " . والله سبحانه وتعالى أعلم"اهـ.
قلت : وقد اعتمد ذلك الحجوي في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/ 457)، وذكر غوائل الاختصار وتاريخ ابتدائه([1].




([1])  وخلاصة ما ذكره الحجوي رحمه الله في كتابه الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/ 457) - 463) باختصار شديد أنه "لما ألفت المتقدمون دواوين كبارا كـ"المدونة" و"الموازية" و"الواضحة" وأمثالها، عسر على المتأخرين حفظها لبرودة وقعت في الهمم، فقام أهل القرن الرابع باختصارها، ... فاختصر "المدونة" ابن أبي زيد في القيروان، ثم جاء البراذعي وألف "التهذيب" اختصر مختصر ابن أبي زيد، وأتقن تربيته، واشتهر كثيرا حتى صار من اصطلاحهم إطلاق لفظ "المدونة" عليه، ثم جاء أبو عمرو بن الحاجب واختصر تهذيب البراذعي في أواسط السابع، ثم جاء خليل في أواسط الثامن واختصره. وهناك بلغ الاختصار غايته؛ لأن مختصر خليل مختصر مختصر المختصر بتكرر الإضافة ثلاث مرات، وإن أخل بالفصاحة، وكاد جل عبارته أن يكون لغزا، وفكرتهم هذه مبنية على مقصدين وهما : تقليل الألفاظ تيسيرا على الحفظ، وجمع ما هو في كتب المذهب من الفروع، ليكون أجمع للمسائل، وكل منهما مقصد حسن لولا حصول المبالغة في الاختصار التي نشأت عنها أضرار؛ فمنها : أن اللغة لنا فيها مترادفات متفاوتة المعنى، وفيها المشترك والتراكيب ذات الوجهين، والوجوه مع حدوث لغة ثانية وهي مصطلحات شرعية، وعربية، فأصبحت الجملة الواحدة تحتمل احتمالات، فلما اختصروا أحالوا أشياء عما قصد بها، وتغيرت مسائل عن موضعها، ... فحصل الطول وضاع الفقه الحقيقي، كما ضاع جل وقت الدرس والمطالعة في حل المقفل وبيان المجمل. ... ... ... ... ... ومنها: أنهم لما أغرقوا في الاختصار، صار لفظ المتن مغلقا لا يفهم إلا بواسطة الشراح، أو الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله وقع الاختصار وهو جمع الأسفار في سفر واحد، وتقريب المسافة وتخفيف المشاق، وتكثير العلم، وتقليل الزمن، بل انعكس الأمر؛ إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن. ... ... ... ... إن الفتور أصاب الأمم الإسلامية عموما حتى في العلوم اللغوية والدينية، وسببه الوحيد فيها هو الاختصار والتواليف التي لم تبق صالحة للتعليم، ولا مناسبة لروح العصر، والواقع في الفقه هو الواقع في النحو والصرف والبيان والأصول حتى إن صاحب "جمع الجوامع" لتمكن فكرة الاختصار منه ادعى في آخره استحالة اختصاره، وكل العلوم وقع فيها ذلك وما أصابها في علومها أصابها في صنائعها وتجارتها وفلاحتها، وكل باب من أبواب الحياة، وإذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، فإن شاءت الأمة النهوض فلتبدأ باصلاح التعليم خصوصا اللسان وأقول: ليس بإنسان من لا قلم له ولا لسان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"اهـ.