السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

شبهة والرد عليها ٢١: الجهاد ماض إلى يوم القيامة، في حال قوة المسلمين وفي حال ضعفهم



شبهة:
«إذا اشترطتم إذن الإمام، والحكام لم يأذنوا سقط الجهاد، والأصل أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة، والمخاطب به المؤمنون؛ ولا يسقط عنها الفرض بحال، ولا عن جميع الطوائف لحديث: «لا تزال طائفة...».».

وللرد على هذه الشبهة أقول:
الجهاد ماض إلى يوم القيامة، في حال قوة المسلمين وفي حال ضعفهم؛
- فهو: بالسنان في حال قوتهم.
- وهو: بالحجة والبرهان باللسان، أو بالقلب في حال ضعفهم.
وهذا معنى ما جاء عن مُعَاوِيَة بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ. وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»().
وعن عَبْد الرَّحْمَن بْنُ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ إِلَّا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ». فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ لَهُ مَسْلَمَةُ: «يَا عُقْبَةُ اسْمَعْ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ» فَقَالَ عُقْبَةُ: «هُوَ أَعْلَمُ، وَأَمَّا أَنَا فَسَمِعْتُ -رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ».
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «أَجَلْ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا كَرِيحِ الْمِسْكِ، مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ، فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ»().
فمعنى هذين الحديثين: استمرار الجهاد في كل زمان، وأن المسلمين لا ينقطعون عنه إلى أن تهب هذه الريح الطيبة.
مع ملاحظة، أن: المراد بالجهاد الجهاد بجميع أنواعه، فهو جهاد بالسنان عند القدرة والقوة، وهو جهاد باللسان بالحجة والبرهان، أو بالقلب عند ضعف القوة والقدرة.

وقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ -رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ؛
- فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ.
- وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ.
- وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ.
وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ».
وفي رواية: «مَا كَانَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ كَانَ لَهُ حَوَارِيُّونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ»().
والشاهد أنه سمى الجهاد: باليد، وباللسان، وبالقلب.
ومن ذلك أنه جعل تحديث النفس بالغزو مما يدفع نفاق القلب من جهة ترك الجهاد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»(). َعَنْ أَنَسٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ قَالَ: «جَاهِدُوا اَلْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»  (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ().).

وجاء في النصوص الشرعية ذكر الجهاد بالنفس والمال؛ فالجهاد ماض بجميع صورة، إن تخلف المسلمون عنه بصورة لا يلزم تخلفهم عنه بالصورة الأخرى، وإن عجزوا عن الجهاد بالسيف في حال، لم يعجزوا عن الجهاد بالقلم واللسان في غيره، أو الجهاد بالمال في حال آخر! 
فإن قيل: «ما توجيه لفظ "يقاتلون" في الحديث؟»
فالجواب: ذكر هذا اللفظ؛ لأن الجهاد به هو أظهر ما يكون، فنص عليه.
ومن تراجم البخاري في صحيحه في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)، «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ. وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ»؛
فانظر كيف فسر هذه الطائفة بأنهم أهل العلم، مع ذكره لوصفهم في الحديث بأنهم: «يقاتلون». 

وفي شرح النووي (ت٦٧٦هـ) على صحيح مسلم، عند تفسيره للمراد من هذه الطائفة: «وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْل الْحَدِيث فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ؟». قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: «إِنَّمَا أَرَادَ أَحْمَد أَهْل السُّنَّة وَالْجَمَاعَة، وَمَنْ يَعْتَقِد مَذْهَب أَهْل الْحَدِيث».
قُلْت [النووي]: «وَيَحْتَمِل أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَة مُفَرَّقَة بَيْن أَنْوَاع الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمْ شُجْعَان مُقَاتِلُونَ، وَمِنْهُمْ فُقَهَاء، وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُمْ زُهَّاد، وَآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر، وَمِنْهُمْ أَهْل أَنْوَاع أُخْرَى مِنْ الْخَيْر، وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ، بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَار الْأَرْض.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَة ظَاهِرَة؛ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْف مَا زَالَ -بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى- مِنْ زَمَن النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْآن، وَلَا يَزَال حَتَّى يَأْتِي أَمْر اللَّه الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث» اهـ().

ومما ينبغي أن يُعلم أن جهاد النفس مطلوب من المسلم في كل حين، وهو مقدم على أنواع الجهاد الخمسة السابقة، فقد جاء عن فضالة بن عبيد قال: رسول الله في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن: من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» ().

فعلى المسلم أن يبدأ بجهاد نفسه على طاعة الله، قبل أي شيء، وجهاده هذا مقدّم على تلك الأنواع.