السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تسُرّنا زيارتكم للمدونة، ونسأل الله أن ينفعكم بمحتواها ويزيدكم من فضله

الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

شبهة والرد عليها ١١: شبهة: لا نرجع إلى علماء السلاطين، إنما نرجع لأهل الجهاد


شبهة:
«لا نرجع إلى علماء السلاطين، إنما نرجع لأهل الجهاد، أما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. (العنكبوت:  ٦٩). فأهل الجهاد يهديهم الله تعالى، كرامة منه لهم، فنحن لا نعتبر كلام أحد من العلماء إلا أصحاب الجهاد، فهم المرجع في النوازل.
قال سفيان بن عيينة: «إذا رأيت الناس اختلفوا، فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله يقول: {...لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...}». ((مشارع الأشواق إلى مصارع الأشواق ، ومثير الغرام إلى بلد السلام) (١/١٧٢-١٧٣)).
وقال عبدالله بن المبارك: «من اعتاصت عليه مسألة، فليسأل أهل الثُّغور عنها». (ذكره البغوي في تفسيره (معالم التأويل)، وابن الجوزي في تفسيره (زاد المسير)، وأبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) عند تفسير (العنكبوت:٦٩))».


وللرد على هذه الشبهة أقول:

إن الآية مكية؛ لأن سورة العنكبوت مكية؛ ومعلوم أن الجهاد بمعنى قتال الكفار لم يشرع بمكة، وهذا يبين أن معنى الجهاد هنا هو جهاد النفس على طاعة الله تبارك وتعالى.

فمعنى هذه الآية هي الجهاد في حمل النفس على الطاعات وعلى رأسها طلب العلم؛ فمعنى الآية يؤخذ بإرجاعها إلى النصوص الواردة في طلب العلم، ولزوم الطاعة.

قال الحسن: «أفضل الجهاد مخالفة الهوى».

وقال الفضيل بن عياض: «والذين جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبل العمل به».

وقال سهل بن عبد الله: «والذين جاهدوا في إقامة السنة، لنهدينهم سبل الجنة».

وروي عن ابن عباس: «والذين جاهدوا في طاعتنا، لنهدينهم سبل ثوابنا». ().

قال السدي وغيره: «نزلت هذه الآية قبل فرض القتال».

قال ابن عطية -رحمه الله-: «فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته».

وقال أبو سليمان الداراني: «ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط، بل هو: نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل، وهو الجهاد الأكبر، قاله الحسن وغيره».

وقال الضحاك: «معنى الآية: والذين جاهدوا في الهجرة: لنهدينهم سبل الثبوت على الإيمان».
و(السبل) ها هنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة والعقائد النيرة.

قال يوسف بن أسباط: «هي إصلاح النية في الأعمال، وحب التزيد والتفهيم، وهذا هو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة، وبعلم يقتدح من علم متقدم، وهي حال من رضي الله عنه». (انظر (تفسير ابن عطية) عند تفسير هذه الآية). 

قال ابن كثير -رحمه الله-: «{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا...} يعني: الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين {...لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...} أي: لنُبَصرنهم سبلنا، أي: طرقنا في الدنيا والآخرة».

قال ابن أبي حاتم: «حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحَواري، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد -من أهل عكا- في قول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال: الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم لما لا يعلمون».

قال أحمد بن أبي الحواري: «فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئًا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه» اهـ.

فليس في الآية اتباع أهل الثغور والأخذ بقولهم إن كانوا جهلة، إنما لمّا كان الحال أن العلماء وطلبة العلم يكونون في الثغور، طاعة لله، وطلباً لأجره وثوابه، فقد تخلوا البلد منهم، فإذا سئل الواحد قال: «اسألوا أهل الثغور!» أو أن المسألة إذا اختلف فيها العلماء، فإن الله يلهم المشتغلين بطاعته الصواب فيها، فاطلب قولهم، للنظر فيه، معتبراً إياه بالدليل!

قال ابن سعدي -رحمه الله-: «دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين» اهـ. (تفسير ابن سعدي، في آخر تفسير سورة العنكبوت).

ولذلك تجد أهل العلم قد يخالفون قول أهل الثغور، كما في مسألة الطفل يسبى، فقد قال أحمد بن حنبل: «إذا سبي معه أبواه أو أحدهما ثم مات لم يصل عليه وهو على دينهما». قال: «وإن لم يكن معه أبواه صلى عليه المسلمون هم يلونه وحكمه حكمهم». قال: «وإن كان معه أبواه جاز أن يفدى به مسلم، وإن لم يكونا معه لم يجز».

وكان ابن حنبل -رحمه الله- يتعجب من قول أهل الثغور في ذلك؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى أبويه في حال من الأحوال، وجعلوا حكمه حكم سيده المسلم.

قال: «ثم جعل يحتج عليهم بقول النبي -صلى الله عليه و سلم-: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه». (أخرجه البخاري في (كتاب الجنائز)، باب إذا أسلم الصبي فمات، حديث رقم (١٢٩٣). ومسلم في (كتاب القدر)، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، حديث رقم (٢٦٥٨). ولفظه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}).». (انظر (الاستذكار) (٣/١١٧)). 

ولم يقل أحد من أهل العلم أن المشتغلين بالجهاد قولهم في المسائل هو الصواب مطلقاً!

وقفة: «هل يصح تنزيل هذه العبارة على الذين يشتغلون بالقتال اليوم؟».
الجواب على هذا السؤال، يحتاج أن يُعلم هل ما يشتغلون به اليوم يسمى جهاداً شرعياً؟! الذي يظهر لي: أن القتال الدائر اليوم في كثير من الجهات لا يسمى جهاداً شرعياً!

ثم الكلام في أهل الثغور، وهم صنف غير هؤلاء تماماً، فلو تنزلنا في فهم العبارة الواردة عن بعض السلف بفهمهم، فإنها لا تنطبق على هؤلاء، والله أعلم!